وكان بها الجَزْل مقيمًا أشهرًا يُداوِي جراحَتَه، وكان ابن أبي عصيفير يعوده ويكرمه، فلمَّا قدم عثمانُ بن قطن المدائن لم يَعُدْه، ولم يَكن يتَعاهده ولا يُلطِفه بشيء، فقال الجزل: اللَّهمّ زِد ابنَ عصيفير جودًا وكرمًا وفضلًا، وزد عثمان بن قطن ضِيقًا وبُخلًا، قال: ثم إن الحجَّاج دعا عبدَ الرَّحمن بن محمد بن الأشعث فقال: انتخِب الناس، واخرجْ في طلب هذا العدو، فأمره بنُخبة ستَّةِ آلاف، فانتخب فُرْسان الناس ووجوههم، وأخرج من قومِه ستَّمئة من كِنْدة وحَضْرَموت، واستحثَّه الحجّاجُ بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمن، فلمَّا أراد الحجَّاج إشخاصهُم كتب إليهم:
أما بعد، فقد اعتدتُم عادةَ الأذلّاء، وولَّيْتم الدُّبر يومَ الزَّحْف، وذلك دأب الكافِرين، وإني قد صفحتُ عنكم مرّة بعد مرّة، ومرّة بعد مرّة، وإني أقسِم لكم بالله قَسَمًا صادقًا لئن عدتم لذلك لأوقِعنّ بكم إيقاعًا أكون أشدَّ عليكم من هذا العدوّ الذي تَهرُبون منه في بطون الأودية والشِّعاب، وتَستترون منه بأثناء الأنْهار وألْواذ الجِبال، فخافَ من له مَعقولٌ على نفسِه، ولم يَجعل عليها سبيلًا، وقد أعَذَر من أنذَر.
وقد أسمعتَ لَوْ نادَيتَ حَيًّا ... ولكنْ لا حياةَ لمن تُنادِي
والسلامُ عليكم.
قال: ثمّ سرّح ابن الأصمّ مؤذّنَه، فأتى عبدَ الرحمن بن محمَّد بن الأشعث عند طلوع الشمس، فقال له: ارتحِلْ الساعةَ ونادِ في الناس: أن برِئتِ الذّمَّةُ من رجل من هذا البَعْث وَجَدناه متخلفًا. فخرج عبدُ الرحمن بنُ محمد بن الأشعَث في الناس حتَّى مَرّ بالمدائن فنزل يومًا وليلةً، وتشَرّى أصحابه حوائجَهم، ثمّ نادَى في الناس بالرَّحيل، فارتحَلوا، ثمّ أقبلوا حتى دَخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجَزْلَ فسأله عن جراحَته، وسأله ساعةً وحدثه، ثم إنّ الجَزْل قال له: يا بن عمّ: إنَّك تسير إلى فُرْسان العَرَب وأبناءِ الحرب، وأحْلاس الخيل، واللهِ لكأنَّما خُلِقوا من ضُلوعها، ثم بُنوا على ظهورِها، ثم هم ألسْد الأجَم، الفارسُ منهم أشدّ من مئة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هُجهج أقدَم، فإني قد قاتلتُهم وبلَوْتُهم، فإذا أصحرتُ لهم انتَصفوا منّي، وكان لهم الفضل عليّ، وإذا خَندقت عليّ وقاتلتُهم في مَضِيق نلتُ منهم بعضَ ما أحِبّ، وكان لي عليهم