المؤمنين، ما كنت أحسبني أبقى حتَّى يُذكر الحجّاجُ في دارك وعلى بساطك، فيُثنى عليه. فقال أبو جعفر: وما استنكرت من ذلك! رجل استكفاه قوم فكفاهم؛ والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتَّى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحَرمين. قال: فقال له معن: يا أميرَ المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدّة لو استكفيتَهم كَفَوْك، قال: ومَن هم؟ كأنَّك تريد نفسك! قال: وإن أردتُها فلم أبعد من ذلك، قال: كلّا لست كذاك؛ إن الحجاج ائتمنه قوم فأدّى إليهم الأمانة، وإنَّا ائتمنَّاك فخُنتنَا.
ذكر الهيثم بن عديّ، عن أبي بكر الهذليّ، قال: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكّة، وسايرتُه يومًا، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جُبَّة خزّ، وعمامة عدنيَّة، وفي يده سوط يكاد يمسّ الأرض، سريّ الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوتُه، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة. فأحسن الجواب، فأعجبه ما رأى منه، فقال: أنشدني، فأنشده شعرًا لأوس بن حجر وغيره من الشعراء من بني عمرو بن تميم؛ وحدّثه حتَّى أتى على شعر لطريف بن تميم العنبريّ، وهو قوله:
إِنَّ قَنَاتي لَنَبْع لا يؤيّسُها ... غمزُ الثِّقاف ولا دُهْنٌ ولا نارُ
فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قال هذا الشعر؟ قال: كان أثقلَ العرب على عدوّه وطأةً وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبة، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقراهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره؛ اجتمعت العرب بعُكاظ فكلّهم أقرّ له بهذه الخلال؛ غير أن امرأ أراد أن يقصّر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النُّجْعة، ولا قاصد الرميّة، فدعاه ذلك إلى أن جعل على نفسه ألّا يأكل إلَّا لحم قَنَص يقتنصه، ولا ينزعَ كلّ عام عن غزوة يُبعد فيها أثره، قال: يا أخا بني تميم، لقد أحسنتَ إذ وصفتَ صاحبك ولكني أحقّ ببيته منه؛ أنا الذي وَصف لا هو.
وذكر أحمد بن خالد الفُقَيْميّ أن عدّة من بني هاشم حدّثوه أنّ المنصور كان شغلُه في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزْل وشحن الثّغور والأطراف