وأمْن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعيّة لطَرْح عالتهم والتلطّف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلّى العصر جلس لأهل بيته إلَّا من أحب أن يسامره، فإذا صَلَّى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كُتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سُمّاره من ذلك فيما أرب؛ فإذا مضى ثلثُ الليل قام إلى فراشه وانصرف سُمّاره، فإذا مضى الثُّلث الثَّاني قام من فراشه، فأسبغ وضوءه، وصفّ في محرابه حتَّى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلِّي بالنَّاس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه (١).
قال إسحاق: حُدّثت عن عبد الله بن الرّبيع، قال: قال أبو جعفر لإسماعيل بن عبد الله: صفْ لي النَّاس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام وبقية العرب، وأهلُ العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشَّام حِصْن الأمة وأسنّة الأئمة، وأهل خُراسان فرسان الهيْجاء وأعنّة الرجال، والتّرك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوْا ببلادهم فاكتفوْا بها عمّا يليهم، والروم أهلُ كتاب وتديّن نحَّاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان مُلكهم قديمًا فهم لكلّ قوم عبيد. قال: فأيّ الولاة أفضل؟ قال: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة. قال: فأيّهم أخرق؟ قال: أنهكهم للرعية، وأتعبهم لها بالخُرق والعقوبة. قال: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قال: يا أميرَ المؤمنين، الطاعة عند الخوف تُسِرّ الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة على المحبّة تضمر الاجتهاد وتبالغ عند الغفلة. قال: فأيّ النَّاس أولاهم بالطاعة؟ قال: أولاهم بالمضرّة والمنفعة. قال: ما علامة ذلك؟ قال: سرعة الإجابة وبذْل النَّفس. قال: فمن ينبغي للملِك أن يتَّخذه وزيرًا؟ قال: أسلمُهم قلبًا، وأبعدهم من الهوى.
وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قال: سمعت المنصور يقول للمهديّ حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدِم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألّف والنصر بالتواضع؛ ولا تنس مع نصيبك من الدُّنيا نصيبَك من رحمة الله.