للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فوُضع بين يديه في تُرس، فأكبّ عليه بعض السيَّافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظرًا شديدًا، وقال لي: دقّ أنفه، قال: فضربت أنفه بالعمود ضربة واحدة لو طُلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته أعمدة الحرس، فمازال يُهشَم بها حتَّى خمِد، ثم جُرّ برجله.

قال الأصمعيّ: حدثني جعفر بن سليمان، قال: قدِم أشعب أيَّام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغنَّاهم، فإذا ألحانه طربةٌ وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟

لِمَنْ طَلَلٌ بِذَاتِ الجَيـ ... ـش أَمسى دارِسًا خَلَقَا

عَلوْن بظاهِرِ البَيْدا ... ءِ فالمَحْزُون قد قَلِقَا

فقال: أخذت الغناءَ من معبد، ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب؛ فإنَّه أحسن تأدية له منّي.

قال الأصمعيّ: وقال جعفر بن سليمان: قال أشعب لابنه عبيدة: إنِّي أراني سأخرجك من منزلي وأنتفي منك، قال: ولِمَ يا أبه؟ قال: لأني أكسب خلق الله لرغيفٍ، وأنت ابني قد بلغتَ هذا المبلغ من السنّ، وأنت في عيالي ما تكسب شيئًا، قال: بلى والله، إنِّي لأكسب؛ ولكن مثل الموزة لا تحمل حتَّى تموت أمها.

وذكر عليّ بن محمَّد بن سليمان الهاشميّ؛ أن أباه محمدًا حدّثه أن الأكاسرة كان يُطيَّن لها في الصيف سقفُ بيت في كلّ يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى بأطنان القصب والخِلاف طُوالًا غلاظًا، فترصَف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العِظام فتجعل ما بين أضعافها؛ وكانت بنو أميّة تفعل ذلك؛ وكان أوّل من اتخذ الخيْش المنصور.

وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطيَّن له في أول خلافته بيتٌ في الصيف تقيل فيه؛ فأتخذ له أبو أيوب الخوزيّ ثيابًا كثيفة تبلّ وتوضع على سِبايك. فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسبُ هذه الثياب إن اتخذت أكثف من هذه إلَّا حملت من الماء أكثر مما تحمل؛ وكانت أبرد، فاتُّخِذ له الخيش، فكان ينصب على قبَّة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتّخذها النَّاس.

<<  <  ج: ص:  >  >>