بناء بغداد، فقام خطيبًا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(١)، أمرٌ مُبْرَمٌ، وقول عدْل، وقضاء فَصْل؛ والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعدًا للقوم الظالمين؛ الذين اتخذوا الكعبة عرَضًا، والفيء إرثًا، وجعلوا القرآن عضين؛ لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطَّلة وقَصْرٍ مشيد؛ أهملهم الله حتَّى بدّلوا السنة، واضطهدوا العِترة، وعندوا واعتدوْا، واستكبروا وخاب كلُّ جبار عنيد؛ ثم أخذهم؛ فهل تحسّ منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزًا!
وذكر الهيثم بن عديّ، عن ابن عياش، قال: إن الأحداث لما تتابعت على أبي جعفر، تمثّل:
تفرَّقت الظّباءُ على خِدَاشٍ ... فما يَدْرِي خداشٌ ما يَصِيدُ
قال: ثم أمر بإحضار القوَّاد والموالي والصحابة وأهل بيته، وأمر حمّادًا التركي بإسراج الخيل وسليمان بن مجالد بالتقدّم والمسيّب بن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتَّى علا المنبر. قال: فأزِمَ عليه طويلًا لا ينطق. قال رجل لشبيب بن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنَّه والله ممّن يهون عليه صِعاب القول، فما باله! قال: فافترع الخطبة، ثم قال:
ما لي أُكفْكِفُ عن سَعْدٍ ويشْتمنِي ... ولو شتمتُ بني سَعْدٍ لقد سكنوا
جهلًا عليَّ وجُبْنًا عن عَدُوِّهمُ ... لبئست الخَلَّتان الجَهْلُ والجُبُنُ
ثم جلس وقال:
فأَلقيتُ عن رَأسِي القناعَ ولم أَكنْ ... لأَكشِفَهُ إِلا لإِحْدَى العظائم
والله لقد عجزوا عن أمرٍ قمنا به، فما شكروا الكافي؛ ولقد مهّدوا فاستوعروا وغمطوا الحقّ وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنْقًا على غَصصٍ، أم أقيم على ضيم ومضَض! والله لا أكرم أحدًا بإهانة نفسي؛ والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلُبنّه ثم لا يجدونه عندي؛ والسعيد مَنْ وُعظ بغيره. قدّم يا غلام، ثم ركب.
وذكر الفقيميّ أنّ عبد الله بن محمَّد بن عبد الرحمن مولى محمَّد بن عليّ حدّثه، أن المنصور لما أخذ عبد الله بن حسن وإخوته والنَّفر الذين كانوا معه من