للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منه بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (١).

قال: فنهضَ الرشيد، وهو يقول: أمّا أمرك فقد وَضح؛ ولكني لا أعجَل حتى أعلم الذي يُرضي الله فيك؛ فإنه الحكم بيني وبينك. فقال عبد الملك: رضيتُ بالله حكَمًا، وبأمير المؤمنين حاكمًا؛ فإني أعلم أنه يُؤثر كتابَ الله على هواه، وأمرَ الله على رضاه.

قال: فلما كان بعد ذلك جلس مجلسًا آخر، فسلَّم لما دخل، فلم يردّ عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يومًا أحتجّ فيه، ولا أجاذب منازعًا وخصمًا. قال: ولمَ؟ قال: لأنّ أوله جرى على غير السنَّة؛ فأنا أخاف آخره. قال: وما ذاك؟ قال: لم تردّ عليّ السلام، أنصفْ نَصفة العوام. قال: السلام عليكم؛ اقتداء بالسنة، وإيثارًا للعدل، واستعمالًا للتحية. ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:

أريدُ حيَاتَهُ ويُريدُ قتلى .... البيت.

ثم قال: أما والله لكأني أنظرُ إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع؛ وكأني بالوعيد قد أورى نارًا تَسْطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورؤوس بلا غلاصم؛ فمهلًا؛ فَبِي والله سُهِّل لكم الوعْر، وصفاْ لكمِ الكدر، وألقت إليكم الأمورُ أثناء أزمَّتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرِّجْل. فقال عبد الملك: اتقّ الله يا أمير المؤمنين فيما ولّاك، وفي رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلتُ لك النصيحة، ومحضتُ لك الطاعة، وشددت أواخِيَ ملكك بأثقل من رُكْنيْ يَلمْلَم، وتركتُ عدوّك مشتغلًا فالله اللهَ في ذي رحمِك أن تقطَعه، بعد أن بللتَه بظنّ أفصح الكتابُ لي بعضَه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالَغُ الدم، فقد والله سهّلتُ لك الوعور، وذَلّلت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم من ليلِ تمام فيك كابدْتُه، ومقام ضيّق قمته؛ كنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:

وَمَقامٍ ضَيّق فَرَجتُه ... بِبَناني وَلساني وَجَدَلْ


(١) سورة التغابن: ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>