وذُكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدنيُّ، وكان مضحاكًا له محداثًا فكيهًا، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يملُّ محادثته، وكان ممَّن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجَّان، فبلغ من خاصَّته بالرَّشيد أن بوَّأه منزلًا في قصره، وخلطه بحُرَمه بطانته ومواليه وغلمانه؛ فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائمًا، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك! قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائمًا، وتأهَّب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرَّشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب، فقال: يابن أبي مريم، في الصلاة أيضًا! قال: يا هذا وما صنعتُ؟ قال: قطعتَ عليَّ صلاتي، قال: والله ما فعلتُ؛ إنما سمعت منك كلامًا غمَّني حين قلت:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما (١).
وذكر بعضُ خدم الرَّشيد أن العباس بن محمد أهدى غاليةً إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مِسْكها فمن سُرَر الكلاب التَبَّتية العتيقة، وأما عَنْبرها فمن عنبر بحر عَدَن، وأما بانُها فمن فلان المدنيَّ المعروف بجودة عَملِه، وأما مركِّبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإنْ رأى أمير المؤمنين أن يمنَّ عليَّ بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقانُ، أدخلْ هذه الغالية؛ فأدخلها خاقان، فإذا هي في بَرْنيَّة عظيمة من فضة، وفيها مِلعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هَبْها لي، قال: خذها إليك. فاغتاظ العباس، وطار أسفًا، وقال:
(١) هذا خبر منكر وكيف نعتمد على خبر هذا إسناده (وذُكِرَ)؟ ! ! وما كان أصحاب الرشيد وسمّاره يجرؤون على هذا وقد عرف بتقواه وخشيته وبكائه مع هيبته في صدور الناس.