ويلك! عمَدت إلى شيء منعتُه نفسي، وآثرتُ به سيدي فأخذتَه! فقال: أمَّه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قال: فضحك الرشيد، ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البَرْنيَّة، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرَّة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سوَّد بها وجهَه ورأسه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه، وقال لخاقان: أدخل إليَّ غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادعُ غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حِرَك إلى أن أنصرف فأنيكك. فأخذها الغلام ومضى، والرَّشيد يضحك، فذهب به الضحك. ثم أقبل على العبَّاس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أنَّ كلَّ شيء تمطر السماء وكلَّ شيء تخرج الأرض له، وكلَّ شيء هو في الدُّنيْا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجبُ من هذا أنه قيل لملك الموت: انظر كلَّ شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تُمْدح عنده الغالية، ويخطب فيِ ذكرها، كأنه بقَّال أو عطار أو تمَّار! قال: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نَفسهُ، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم (١).
وذكر عن زيد بن عليّ بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قال: أراد الرشيد أن يشرب الدَّواء يومًا، فقال له ابن أبي مريم: هل لك أن تجْعلَني حاجبك غدًا عند أخذك الدواء؛ وكل شيء أكسبه فهو بيني وبينك؟ قال: أفعلُ، فبعث إلى الحاجب: الزمْ غدًا منزلك؛ فإني قد ولَّيت ابن أبي مريم الحجابة. وبكَرَ بن أبي مريم، فوضع له الكرسيَّ، وأخذ الرَّشيد دواءه، وبلغ الخبر بِطانتَه، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرَّف حالَه وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلْمِ السيدة ما فعلتُ في الإذن لك قبل الناس؛ فاعلمَها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كلَّ واحد من البرامكة بصلَة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فردَّه ولم يأذن له، وجاءت رسلُ القواد والعظماء؛ فما أحد سهَّل إذنه إلا بعث إليه بصلة
(١) كيف نعتمد على هذا الإسناد (ذكر بعض الخدم) في إثبات هذا الحوار الخاص ... ؟ .