المعتصم بالذهب مختومًا، فيهِ "أمان" لبابك. فدعا الأفشين مَنْ كان استأمن إليه من أصحاب بابك؛ وفيهم ابن له كبير، أكبر ولدهُ، فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوهُ من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان؛ فمن يأخذه منكم ويذهبُ به إليه؟ فلم يجسر على ذلكَ أحد منهم، فقال بعضهم: أيها الأمير؛ ما فينا أحدٌ يجترئ أن يلقاه بهذا فقال له الأفشين: ويحك! إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحنُ أعرف بهذا منك؛ قال: فلا بدَّ لكم من أن تهبوا لي أنفسكم، وتُوصلوا هذا الكتاب إليه. فقام رجلان منهم فقالا له: اضمن لنا أنك تُجري على عيالاتنا؛ فضمن لهما الأفشين ذلك، وأخذا الكتاب وتوجَّها فلم يزالا يدوران في الغَيْضَةِ حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك بكتاب يُعلمهُ الخبر، ويسأله أن يصير إلى الأمان؛ فهو أسلم له وخير. فدفعا إليه كتاب ابنه، فقرأهُ، وقال: أيُّ شيء كنتم تصنعون؟ قال: أسِرَ عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا؛ ولم نعرف موضعكَ فنأتيكَ، وكنَّا في موضع تخوَّفنا أن يأخذونا؛ فطلبنا الأمان؛ فقال للذي كان الكتاب معهم: هذأ لا أعرفه؛ ولكن أنت يا بن الفاعلة، كيفَ اجترأتَ على هذا أن تجيئني من عند ذاكَ ابن الفاعلة فأخذه وضرب عنقه، وشدَّ الكتاب على صدره مختومًا لم يفضَّه؛ ثم قال للآخر: اذهب وقل لذاكَ ابنَ الفاعلة - يعني ابنه - حيث يكتب إليَّ؛ وكتب إليهِ: لو أنكَ لحقت بي واتبعت دعوتكَ حتى يجيئكَ الأمرُ يومًا كنتَ ابني؛ وقد صحَّ عندي الساعة فساد أمَّكَ الفاعلة، يا بن الفاعلة، عسى أن أعيشَ بعد اليوم! قد كنت باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكًا؛ ولكنك من جنس لا خيرَ فيه، وأنا أشهد أنكَ لستَ بابني؛ تعيش يومًا واحدًا وأنت رئيس خير، أو تعيشُ أربعين سنة وأنت عبد ذليل!
ورحل من موضعهِ، ووجَّهَ مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوهُ من موضع من المواضع، ثم لحقوا ببابك؛ فلم يزل في تلكَ الغَيضة حتى فني زادهُ، وخرجَ مما يلي طريقًا كان عليهِ بعض العساكر، وكان موضع الطريق جبلًا ليس فيه ماء؛ فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء، فتنحَّى العسكر عن الطريق إلى قرب الماء؛ وصيَّروا كوهبانيين وفارسين على طرف الطريق يحرسونهُ، والعسكر بينهُ وبين الطريق نحو من ميل ونصف، كان ينوب على الطريق كلَّ يوم