هنالك أنيس إلّا في الحصون، وقد ذهب الدوابّ وكلّ شيء لم تحتمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلّا أن يستنزِلونا، فإن أبطأ عنّا الغياث أعطيناهم بأيدينا، وكتب إليه بذلك المُلُوك الَّذين لهم الضّياع بالطفّ، وأعانوهم عليه، وهيَّجوه على بعثه رستم.
ولما بدا ليزدَجِرْد أن يرسلَ رستَم أرسلَ إليه، فدخل عليه، فقال له: إنِّي أريد أن أوَجهك في هذا الوجه؛ وإنما يُعَدّ للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم، وقد ترى ما جاء أهلَ فارس مِن أمر لم يأتِهم مثلُه منذ وليَ آلُ أردشير، فأراه أن قد قبِل منه، وأثنى عليه. فقال له الملك: قد أحبُّ أن انظر فيما لديك لأعرفَ ما عندك، فصفْ لِي العرب وفعلَهم منذ نزلوا القادِسيَّة، وصف لي العَجَم وما يلقوْن منهم.
فقال رستم: صفَهَ ذئابٍ صادفت غِرَّةً من رِعاء فأفسدت. فقال: ليس كذلك؛ إني إنما سألتك رجاء أن تُعرِب صفتهم فأقوّيك لتعمل على قَدْر ذلك فلم تُصِبْ، فافهم عنِّي؛ إنَّما مَثَلُهم ومثَلُ أهل فارس كَمَثل عُقَاب أوفَى على جبل يأوي إليه الطير بالليل، فتبيت في سَفْحه في أوكارها، فلمّا أصبحت تجلَّت الطير، فأبصرته يرقبها، فإن شذّ منها شيء اختطفه، فلمّا أبصرته الطير لم تنهض من مخافته؛ وجعلت كلَّما شذ منها طائر اختطَفه، فلو نهضت نهضةً واحدة ردَّته؛ وأشدُّ شيء يكون في ذلك أن تنجُوَ كلُّها إلا واحدًا؛ وإن اختلفت؛ لم تنهض فرقة إلَّا هلكت؛ فهذا مثلُهم ومثل الأعاجم؛ فاعمل على قَدْرِ ذلك. فقال له رستُم: أيّها الملك، دَعْني؛ فإنَّ العرب لا تزالُ تهاب العجم ما لم تُضَرِّهم بي؛ ولعلّ الدولة أن تثبت بي فيكون الله قد كَفَى، وتكون قد أصبْنَا المكيدة ورأيَ الحرب؛ فإنّ الرّأي فيها والمكيدة أنفع من بعض الظَّفر. فأبَى عليه، وقال: أيّ شيء بقي! فقال رستم: إنَّ الأناة في الحرْب خيرٌ من العجلة، وللأناة اليومَ موضع، وقتال جيش بعد جيش أمثلُ من هزيمة بمرّة وأشدّ على عدوِّنا، فلجَّ وأبَى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وجعلت تختلف إلى الملك الرُّسل ليرى موضعًا لإعفائه وبعثةِ غيره، ويجتمع إليه النَّاس. وجاء العيون إلى سعد بذلك من قبَل الحيرة وبني صلوبا، وكتب إلى عمر بذلك. ولما كثرت الاستغاثة على يَزْدَجرد من أهل السَّواد على يدي الآزاذمرد بن الآزاذبه جشعت نفسه، واتّقى الحرب برستم،