والاستنباط وإنما يعتمد على ما ينقل إليه، ليدوِّن الأخبار على عهدة رواتها، ويعرضها بشكل موضوعي محايد، مع عَزْو كلِّ رواية لصاحبها.
وكان الطبريّ -رحمه الله تعالى- يذكر الروايات المختلفة، سواء كانت موافقة لفكره ورأيه، أم مخالفة لذلك، ولم يعلِّق غالبًا بترجيح، أو نقد، وترك ذلك للقارئ، لكن كان أحيانًا يُدلي برأيه، ويرجِّح بعض الروايات مبيِّنًا وجه الترجيح، ومستخدمًا في هذه الطريقة معرفته بالحديث وطرقه.
ويذكر الطبري سند الرواية موصولًا إلى صاحبه على طريقة علم الحديث، فإذا سمع الرواية من إنسان مشافهة قال:"حدَّثني" وإذا اشترك معه آخرون في السماع قال: "حدَّثنا"، وإذا كان بالمراسلة قال:"كتب إلي"، وإذا أخذ الأخبار عن الكتب أو بطريق الإجازة قدَّم لعبارته بقول:"قال" و"ذُكر" و "رُوي" و"حُدّثت عن فلان" ويهمل اسم المحدث، كما يذكر اسم مؤلف الكتاب، ولا يذكر اسم الكتاب، واستخدم الطبري اصطلاحات الحديث، التزامًا منه بمنهج المحدِّثين، في رواية الحديث النبوي، لذلك كان رجال الحديث هم واضعو أسس المنهج التاريخي.
ولكنّ الطبري، وغيره من المؤرخين، لم يلتزموا بجميع قواعد مصطلح الحديث في كتابة التاريخ للفارق الكبير بينهما، فالحديث مصدر من مصادر التشريع الإِسلامي، وتؤخذ منه الأحكام الشرعية، ويمثل التطبيق العملي لأحكام الدين، وهو مصدر العقيدة، وهو المنبع لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتي يُعتمد عليها في الاقتداء والتأسِّي، ولا يرقى التاريخ إلى هذا المستوى، لذلك تساهل الطبريُّ رحمه الله في الروايات التاريخية، ولم يطبِّق على رجال السند منهج الجَرْح والتعديل، واكتفى بإلقاء العُهدة في الخبر على الرَّاوي، كما ذكر في مقدمته، واعتمد قيمة الروايات بقوة أسانيدها من جهة، وقرب السند إلى الحادثة من جهة أخرى، ومن هنا يظهر السبب في قبول الطبري لرواية الضعفاء - عند المحدثين، مثل محمد بن السائب الكلبي، وابنه هشام بن محمد الكلبي، وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي الكبير -كما يقبل رواية المجهولين، والروايات المرسلة إلى ابن عباس وغيره.
وتساهل الطبري أكثر فأكثر في الأجزاء الأخيرة من الكتاب، فيقول مثلًا: