سفك الدماء لعاجلتُ قيسًا، فوالله ما عزَّتْ إلّا ذلّ الإسلام.
ولما بلغ يوسفَ بن عمر قتلُ الوليد، جعل يعمِد إلى مَن بحضرته من اليمانيَة فيلقيهم في السُّجون، ثم جعل يخلُو بالِرجل بعد الرّجل من المضريّة، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فَتْق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشام، أبايع مَنْ بايعوا، وأفعل ما فعلوا، فلم يرَ عندهم ما يحبّ، فأطلَق مَنْ في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بن عبد الله البصريّ ومنصور بن نصير - وكانا على خَبَر ما بينه وبين أهل الشام - فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشام أرصادًا، وأقام بالحيرة وجلًا، وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع؛ كتب إلى سُليمان بن سُليم بن كيسان كتابًا:
أما بعد، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردَّ له؛ وإنّ الوليد بن يزيد بدّل نعمة الله كفرًا، فسفّك الدّماء، فسفك الله دَمه، وعجَّله إلى النار! وولى خلافته مَنْ هو خير منه، وأحسن هديًا؛ يزيد بن الوليد، وقد بايعه الناس، وولّى على العراق الحارثَ بن العباس بن الوليد، ووجّهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين؛ فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنّك منهم أحد، فاحبسهم قِبَلك، وإياك أن تخالف، فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قِبَل لك به؛ فاختر لنفسك أو دَعْ.
وقيل إنه لما كان يعين التّمْر كتب إلى مَنْ بالحيرة من قوّاد أهل الشأم يُخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله. وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بن سُليم بن كَيْسان، وأمره أن يفرّقها على القوّاد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فَبعِل به (١).
قال حُريث بنُ أبي الجهم: كان مكثي بواسط؛ فما شعرت إلا بكتاب منصور بن جمهور قد جاءني أن خذْ عمال يوسف، فكنت أتولّى أمره بواسط، فجمعت مواليَّ وأصحابي، فركبنا نحوًا من ثلاثين رجلًا في السلاح؛ فأتينا المدينة. فقال البوابون: مَنْ أنت؟ قلتُ: حُرَيث بن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء
(١) بعل به؛ أي: تبرم فلم يدر ما يصنع، والبعل: الضجر والتبرم بالشيء.