وبنى فى جميع هذه الأماكن بيوت للنّيران، نذكرها بعد إن شاء الله تعالى.
ثم انقطعت عبادة النيران من أكثر هذه الأماكن إلا الهند. فإنهم يعبدونها إلى يومنا هذا. وهم طائفة تدعى الإكنواطرية. [١] زعموا أن النار أعظم العناصر جرما، وأوسعها حيزا، وأعلاها مكانا، وأشرفها جوهرا، وأنورها ضياء وإشراقا، وألطفها جسما وكيانا؛ وأن الأحتياج إليها أكثر من الاحتياج إلى سائر الطبائع؛ ولا نور فى العالم إلا بها؛ ولا نموّ ولا انعقاد إلا بممازجتها.
وعبادتهم لها أن يحفروا أخدودا مربعا فى الأرض ويحشوا النار فيه، ثم لا يدعون طعاما لذيذا، ولا شرابا لطيفا، ولا ثوبا فاخرا، ولا عطرا فائحا، ولا جوهرا نفيسا، إلا طرحوه فيها: تقرّبا إليها، وتبرّكا بها. وحرّموا إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، خلافا لجماعة أخرى من زهّاد الهند.
وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعظمائها. يعظمون النار لجوهرها تعظيما بالغا، ويقدّمونها على الموجودات كلها.
ومنهم زهّاد وعبّاد يجلسون حول النار صاغين، يسدّون منافسهم حتّى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر مجرم. وسنّتهم الحثّ على الأخلاق الحسنة، والمنع من أضدادها، وهى: الكذب، والحسد، والحقد، والكفاح، والحرص، والبغى، والبطر. فإذا تجرّد الإنسان عنها، تقرّب من النار.
[١] أفادنا المترجم الألمانى لكتاب الملل والنحل أن هذه الكلمة مأخوذة من «أجنيهترا» وهى لنار المقدّسة (أى التى تتأجج إكراما للإله أجنى.)