والعلم والاتباع له من أعظم ما تزيّنت به الملوك. ومن أعظم المضرة على الملوك الأنفة من العلم والحميّة من طلبه، ولا يكون عالما من لا يتعلّم.
ولما استقصيت ما عند هاتين الأمتين من حكمة التدبير والسياسة، ووصلت بين مكارم أسلافى، وما أحدثته بالرأى، وأخذت به نفسى، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منا، وثبت على الأمر الذى نلت به الظفر والخير، ورفضت سائر الأمم لأنى لم أجد عندهم رأيا ولا عقولا ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ لها نعمة.
قال ابن مسكويه: وقرأت مع هذه السير فى آخر هذه الكتاب الذى كتبه أنوشروان فى سيرة نفسه أن أنوشروان لما فرغ من أمور المملكة وهذبها جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنساك والموابذة وأماثل الناس معهم فخطبهم فقال:
[ذكر خطبة أنوشروان]
قال: أيها الناس، أحضرونى فهمكم، وارعونى أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، فإنى لم أزل واضعا سيفى على عنقى منذوليت عليكم غرضا للسيوف والأسنة، وكل ذلك للمدافعة عنكم، والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى الشرق، وتارة فى آخر المغرب، وأخرى فى نهاية الجنوب، ومثلها فى جانب الشمال، ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع فى بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطنية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه بعد سهوله، وأصبر على المخمصة «١» والمخافة، وأكابد البرد والحر، وأركب هول البحر وخطر المفازة؛