ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله. وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه؛ بل لكلّ كلام وجوه ولكلّ ذى فهم في اقتباس المعنى منه حظّ. وضرب الإمام الغزالىّ لذلك أمثلة يطول شرحها.
الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات
فعزب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود الذى يضاهى حاله حال النّسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ فى مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهنّ. وعن مثل هذه الحالة تعبّر الصوفية بأنه فنى عن نفسه. ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى؛ فكأنه فنى عن كلّ شىء إلا عن الواحد المشهود، وفنى أيضا عن الشهود فإنّ القلب إن التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود. فالمستهتر بالمرئىّ لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته و [لا «١» ] إلى عينه التى بها رؤيته ولا إلى قلبه الذى به لذّته. فالسكران لا خبر له في سكره «٢» ، والملتذّ لا خبر له في «٣» التذاذه، إنما خبره من الملتذّ به فقط، ولكن هذا في الغالب يكون كالبرق الخاطف الذى لا يثبت ولا يدوم وإن دام لم تطقه القوّة البشريّة فربما يضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك فيه نفسه كما روى عن أبى الحسن النورى أنه سمع هذا البيت:
ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحيّر الألباب دون نزوله
فقام وتواجد وهام على وجهه ووقع في أجمة قصب قد قطعت وبقيت أصولها مثل السيوف فصار «٤» يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يجرى من رجليه حتى ورمت قدماه وساقاه ومات بعد أيام رحمه الله.