يراعيه حتى طلع وأزهر وحصرم وأعنب، وهم لا يقربونه خشية أن يكون متلفا، فأمر الملك أن يعصر ماؤه ويودع الآنية وأخرج الحبّ منه وترك بعضه على حاله. فلمّا صار فى الآنية غلا وقذف بالزبد وفاحت له روائح عبقة، فقال الملك:
علىّ بشيخ كبير، فأتى به، فسقاه من هذا العصير. فلمّا شرب منه ثلاثا صال وتكلّم وصفّق بيديه وحرّك رأسه ووقع برجليه على الأرض، فظهر عليه الطّرب والفرح وتغنّى. فقال الملك: هذا شراب مذهب للعقل، وأخلق به أن يكون قتّالا، ألا ترون إلى هذا الشيخ كيف عاد الى حال الصّبا وقوّة الشباب، ثم أمر الملك بالشيخ فرقد، فسكن ونام. فقال الملك: هلك، ثم أفاق الشيخ وطلب الزيادة من الشراب وقال: لقد شربته فكشف عنّى الهموم والغموم، وأزال عنّى الأحزان. فقال الملك: هذا أشرف شراب الرجل، فأكثر من غرس الكروم، واختصّ به دون غيره من الناس، واستعمله بقيّة أيامه، ثم نما بعد ذلك وكثر فى أيدى الناس. وهذا آخر ما أورده المسعودىّ من أخبار السّريان.
ذكر أخبار الملوك الكلوانيّين وهم ملوك النّبط ملوك بابل
قال المسعودىّ «١» ، ذهب «٢» جماعة من أهل البحث والعناية بأخبار ملوك العالم أنهم ملوك العالم الذين مهّدوا الأرض بالعمارة، وأنّ الفرس الأول إنما أخذوا الملك من هؤلاء كأخذ الروم الملك من اليونان.
فكان أوّل من ملك منهم نمروذ الجبّار. فكان ملكه نحوا من ستين سنة. وقد قدّمنا أخبار نمروذ «٣» فى قصّة إبراهيم عليه السلام.