بعد استماعك منّى بالإمساك عما أنا عليه لأفعلنّ. فأطمع ذلك عطاء في ابن سريج وقال له: قل. فاندفع يغنّى بشعر جرير:
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
قال: فلما سمعه عطاء اضطرب اضطرابا شديدا وداخلته أريحيّة، فحلف ألّا يكلّم أحدا بقيّة يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام، فكان كل من يأتيه يسأل عن حلال أو حرام أو خبر لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلّى المغرب، ولم يعاود ابن سريج بعدها ولا تعرّض له.
وحكى عنه أيضا أنّ عمر بن أبى ربيعة حجّ في عام من الأعوام ومعه ابن سريج، فلما رموا الجمرات تقدّما الحاجّ إلى كثيب على خمسة أميال من مكة مشرف على طريق المدينة وطريق الشأم والعراق، وهو كثيب شامخ مفرد عن الكثبان، فصارا إليه فأكلا وشربا. فلما انتشيا أخذ ابن سريج الدفّ فنقره وجعل يتغنّى وهم ينظرون إلى الحاجّ. فلما أمسيا رفع ابن سريج صوته وتغنّى بشعر لعمر بن أبى ربيعة، فسمعه الرّكبان، فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت، أما تتّقى الله! قد حبست الناس عن مناسكهم، فيسكت قليلا حتى إذا مضوا رفع صوته فيقف آخرون؛ إلى أن وقف عليه في الليل رجل حسن الهيئة على فرس عتيق حتى وقف بأصل الكثيب، ثم نادى:
يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن تردّد شيئا مما سمعته منك؟ قال: نعم ونعمة عين، فأيّها تريد؟ فاقترح صوتا فغنّاه. ثم قال له ابن سريج: ازدد إن شئت؛ فاقترح صوتا آخر فغنّاه، فقال له: والثالث ولا أستزيدك، فغناه الثالث. وقال له ابن سريج: أبقيت «١» لك حاجة؟ قال نعم، تنزل لأخاطبك؛ فنزل إليه فإذا هو يزيد