وتدبّر معانيه حتى لا يزال مصوّرا فى فكره، دائرا على لسانه، ممثّلا فى قلبه، ذاكرا له فى كل ما يرد عليه من الوقائع التى يحتاج الى الاستشهاد به فيها، ويفتقر الى اقامة الأدلّة القاطعة به عليها؛ وكفى بذلك معينا له فى قصده، ومغنيا له عن غيره، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
؛ وقد أخرج من الكتاب العزيز شواهد لكل ما يدور بين الناس فى محاوراتهم ومخاطباتهم مع قصور كل لفظ ومعنى عنه، وعجز الإنس والجنّ عن الاتيان بسورة من مثله؛ ومن ذلك أن سائلا قال لبعض العلماء: أين تجد فى كتاب الله تعالى قولهم:
الجار قبل الدار؟ قال: فى قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ
فطلبت الجار قبل الدار، ونظائر ذلك كثيرة. وأين قول العرب:«القتل أنفى للقتل» لمن أراد الاستشهاد فى هذا المعنى من قوله عزّ وجلّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
. وأكثر الناس على جواز الاستشهاد بذلك ما لم يحوّل عن لفظه، ولم يغيّر معناه.
فمن ذلك ما روى فى عهد أبى بكر رضى الله عنه: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، وأوّل عهده بالآخرة، إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن برّ وعدل فذلك ظنّى به، وان جار وبدّل فلا علم لى بالغيب، والخير أردت بكم، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وروى أن عليا رضى الله عنه قال للمغيرة بن شعبة لما أشار عليه بتولية معاوية: