ورددت القول فى نحورهم حين قالوا: إنه ينتظر الوحى، ويتوكّف «١» مناجاة الملك، فقلت: ذلك أمر طواه الله تعالى بعد نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، أكان الأمر معقودا بأنشوطة «٢» ، أو مشدودا بأطراف ليطة «٣» ؟ كلّا والله، لا عجماء بحمد الله إلا وقد أفصحت، ولا شوكاء إلّا وقد تفتّحت؛ ومن أعجب شأنك قولك: لولا سالف عهد، وسابق عقد، لشفيت غيظى، وهل ترك الدّين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو لسان؟ تلك جاهليّة قد استأصل الله شأفتها، واقتلع جرثومتها؛ وهوّر «٤» ليلها، وغوّر سيلها؛ وأبدل منها الرّوح والرّيحان، والهدى والبرهان؛ وزعمت أنك ملجم، ولعمرى إنّ من اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراه.
فقال علىّ رضى الله عنه: مهلا مهلا يا أبا حفص، والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغى حولا عنه؛ وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشّقاق؛ وفى الله سلوة عن كل حادث، وعليه التوكّل فى كلّ الحوادث؛ ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح اللّبان «٥» ، فصيح اللسان. فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشدّ الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة بمشيئة الله وتوفيقه.
قال أبو عبيدة رضى الله عنه: فانصرف علىّ وعمر رضى الله عنهما، وهذا أصعب ما مرّ علىّ بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.