وبذلك أمرنا ربّنا عزّ وجلّ، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألّا تكون همّة أحدنا من الدّنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله فى رضا ربّه، وجهاد عدوّه.
فلمّا سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرّجل قطّ؟ لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندى من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلّها.
ثم أقبل على عبادة فقال: أيّها الرجل الصّالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من كان إلّا لحبّهم الدّنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الرّوم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنّجدة والشّدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنّكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم فى ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم، وقلّة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، تقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.
فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الرّوم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم؛ فلعمرى ما هذا بالذى تخوّفنا به، ولا بالّذى يكسرنا عمّا نحن