قال محمد بن عبد الله بن فروة: قلت لإسماعيل بن جامع يوما: هل غلبك أحد من المغنّين قط؟ قال: نعم، كنت ليلة ببغداد إذ جاءنى رسول أمير المؤمنين هارون الرشيد فأمرنى بالرّكوب، فركبت حتى صرت إلى الدار، فإذا أنا بالفضل بن الربيع ومعه زلزل العوّاد وبرصوما؛ فسلّمت وجلست يسيرا. فطلع خادم فقال للفضل:
هل جاء؟ قال لا. قال: فابعث إليه. ولم يزل المغنّون يدخلون واحدا واحدا حتى كنّا ستّة أو سبعة. ثم طلع الخادم فقال: هل جاء؟ فقال لا؛ فقال: قم فابعث فى طلبه؛ فقام فغاب غير طويل فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبى الكنّات. فسلّم وجلس إلى جنبى، فقال لى: من هؤلاء؟ قلت: مغنّون، هذا «زلزل» وهذا «برصوما» .
فقال: لأغنّينّك غناء يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان. ثم طلع الخصىّ فدعا بكراسىّ، وخرج الجوارى. فلما جلسن قال الخادم: شدّوا فشدّوا عيدانهم؛ ثم قال:
يغنّى ابن جامع، فغنّيت سبعة أو ثمانية أصوات؛ قال: اسكت، وليغنّ إبراهيم الموصلىّ؛ فغنّى مثل ذلك أو دونه ثم سكت، وغنّى القوم كلّهم واحدا بعد واحد حتى فرغوا. ثم قال لابن أبى الكنّات: غنّ؛ فقال لزلزل: شدّ طبقتك فشدّ؛ ثم قال له: شدّ فشدّ، ثم أخذ العود من يده فجسّه حتى وقف على الموضع الذى يريده، ثم قال: على هذا. وابتدأ الصوت الذى أوّله «ألالا» ؛ فو الله لقد خيّل إلىّ أن الحيطان تجاوبه؛ ثم رجّع النّغمة فيه؛ فطلع الخصىّ فقال: اسكت لا تتمّ الصوت فسكت. ثم قال: يجلس عمرو بن أبى الكنّات وينصرف سائر المغنّين؛ فقمنا بأسوأ حال وأكسف بال، ولا والله ما زال كلّ واحد منّا يسأل صاحبه عن كلّ ما يرويه من الغناء الذى أوّله «ألالا» طمعا في أن يعرفه وأن يوافق غناءه فما عرفه منا أحد. وبات عمرو عند الرشيد ليلته وانصرف من عنده بجوائز وصلات وطرف سنية.