تقول بنتى وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبى الأوصاب والوجعا
وكان شىء إلى شىء فغيّره ... دهر ملحّ على تفريق ما جمعا
قال: فلم يسمع شىء أحسن من ابتدائها بالأمس وختمها فى اليوم؛ وقطعت المجلس وانصرف قوم وأقام آخرون. فلما كان فى اليوم الثالث اجتمع الناس فضربت ستارة وأجلست الجوارى، فضربن كلّهنّ، وضربت هى فضربت على خمسين وترا فزلزلت الدار. ثم غنّت على عودها وهنّ يضربن على ضربها:
فإن خفيت كانت لعينك قرّة ... وإن تبد يوما لم يعمّمك عارها
من الخفرات البيض لم تر غلظة ... وفى الحسب الضّخم الرفيع نجارها
فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها
بأطيب من فيها إذا جئت موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطيب نارها
فدمعت أعين كثير منهم حتى بلّوا ثيابهم وتنفّسوا الصّعداء، وقالوا: بأنفسنا أنت يا جميلة! ثم قالت للجوارى: اكففن فكففن؛ وقالت: يا عزّ غنّى، فغنّت بشعر لعمر:
تذكّرت هندا وأعصارها ... ولم تقض نفسك أوطارها
تذكّرت النفس ما قد مضى ... وهاجت على العين عوّارها
لتمنح رامة منّا الهوى ... وترعى لرامة أسرارها
إذا لم نزرها حذار العدا ... حسدنا على الزّور زوّارها
فقالت جميلة: يا عزّ، إنك لباقية على الدهر، فهنيئا لك حسن هذا الصوت مع جودة هذا الغناء. ثم قالت لحبابة وسلّامة: هاتيا لحنا واحدا، فغنّتا فاستحسن غناؤهما. ثم أقبلت على خليدة فقالت: بنفسى أنت! غنّى فغنّت، فاستحسن منها