ابتداء إلا لمعنّى، فعلمت أنها لم تبتدئ هذا الصوت إلا لشىء أومئ إليها به، ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابته بطعنة. وقد حكى أنّ المأمون قال فى هذه الواقعة عن محمد بن حامد: نكشخنه قبل أن يكشخننا [١] ؛ فزوّجه إياها، واشترط عليه أن يحضرها إلى مجلسه فى أوقات عيّنها له المأمون.
وقال حمدون: كنت ليلة فى مجلس المأمون ببلاد الروم بعد العشاء الآخرة فى ليلة ظلماء ذات رعود وبروق؛ فقال لى المأمون: اركب الساعة فرس النّوبة وسر إلى عسكر أبى إسحاق، (يعنى المعتصم) ، فأدّ إليه رسالتى وهى كيت وكيت. فركبت فلم تثبت معى شمعة، وسمعت وقع حافر دابّة فرهبت ذلك فجعلت أتوقّاه حتى صكّ ركابى تلك الدابّة، وبرقت بارقة فأبصرت وجه الراكب فإذا عريب؛ فقلت: عريب؟
قالت: نعم، حمدون؟ قلت نعم. ثم قلت لها: من أين أقبلت فى هذا الوقت؟
قالت: من عند محمد بن حامد. قلت: وما صنعت عنده؟ قالت: يانكس، عريب تجىء فى هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجة من مضرب الخليفة راجعة إليه تقول لها: أىّ شئ عملت معه! صلّيت معه التراويح، أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئا من الفقه! يا أحمق، تحادثنا وتعاتبنا وآصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنّينا وانصرفنا. قال: فأخجلتنى وغاظتنى وافترقنا. ومضيت فأدّيت الرسالة؛ ثم عدت إلى المأمون وأخذنا فى الحديث وتناشدنا الأشعار، فهممت أن أحدّثه بحديثها ثم هبته، فقلت: أقدّم قبل ذلك تعريضا بشىء من الشعر فأنشدته:
ألا حىّ أطلالا لقاطعة الحبل ... ألوف تساوى صالح القوم بالرّذل
فلو أنّ من أمسى بجانب تلعة ... الى جبلى طىّ فساقطة النعل
[١] كشخنه وكشخه: شتمه بالكشخنة وهى الدّياثة وعدم الغيرة.