فزعزعت منها بروجا وبدنا، وقالت: هذا جزاؤكم وإن عدتم عدنا، ولنتبعنّ بعدها آثاركم ونقلع منكم قلاعا ومدنا. فلما أكذبهم الحصن فى آمالهم، وأراهم الله قرب آجالهم؛ وكان ذلك فى اليوم الأغرّ يوم الجمعة والفتح، سلكوا فى التسليم عادة لم يسلكوها، ورأوا من الجزع خطّة ملكتهم ولم يملكوها؛ فأجمعوا أمرهم وشركاءهم إلا أنه كان عليهم غمّة، وطلبوا الذّمام ومن قبلها كانوا لا يرقبون فى مؤمن إلّا ولا ذمّة؛ فألقوا إلى الإسلام يومئذ السلم، ورأوا نور الله الظاهر أشهر من نار على علم؛ فخرجوا من الحصن زرافات وأوزاعا، مهطعين إلى الداعى كيوم يخرجون من الأجداث سراعا. فلو تراهم نحو المنايا يركضون، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
جرت الرياح على مقرّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
وصدق الله المؤمنين وعده، وكان بصدق وعده حقيقا، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
. فلما كان يوم السبت نادى فيهم السيف بالرحيل، ولم يتزوّدوا من متاع الدنيا إلا القليل؛ وقام النصر على منابر الهامات خطيبا، وكثر القتل فصار المهنّد الصقيل خضيبا؛ وأجرى أودية من دمائهم، ولم يغادر بقيّة من ذمائهم؛ واستوى العبيد منهم والأرباب، وصار فرسانهم فرانس الذئاب، واستمرءوا المرعى الوخيم فرعاهم الذّباب؛ ووجدوا غبّ البغى علينا، وقلنا: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا