والقصور والفواكه والأنهار فهو أيضا زاهد ولكنّه دون الأوّل. والذى يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض، كالذى يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسّع فى الأكل ولا يترك التجمّل فى الزينة، فلا يستحقّ اسم الزهد مطلقا؛ ودرجته فى الزّهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصى فى التائبين، وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصى صحيحة؛ فإنّ التوبة عبارة عن ترك المحظورات، والزهد عبارة عن ترك المباحات التى هى حظّ النفس. والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمّى زاهدا، وإن كان زهد فى المحظور وانصرف عنه، ولكنّ العادة تخصّص هذا الاسم بتارك المباحات. فإذا الزهد عبارة عن رغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله عدولا إلى الله، وهى الدرجة العليا. وكما يشترط فى المرغوب فيه [١] أن يكون خيرا عنده؛ فيشترط فى المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه، فإنّ ترك ما لا يقدر عليه محال، وبالترك يتبيّن زوال الرغبة؛ ولذلك قيل لابن المبارك:
يا زاهد؛ فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز، إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها، وأما أنا ففيم زهدت! وأمّا العلم الذى هو المثمر لهذا الحال فهو العلم يكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى المأخوذ، كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه؛ وما لم يتحقّق هذا العلم لا يتصوّر أن تزول الرغبة عن المبيع، فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى، أى لذّتها خير فى نفسها وأبقى. فبقدر قوّة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة فى البيع والمعاملة؛ حتّى إنّ من قوى يقينه يبيع نفسه وماله، كما قال الله عز وجل: