للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...

الآية، ثم بيّن أن صفقتهم رابحة فقال تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ

. فليس يحتاج من العلم فى الزهد إلا إلى هذا القدر وهو أنّ الآخرة خير وأبقى؛ وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إمّا لضعف علمه ويقينه، وإما لاستيلاء الدنيا والشهوة فى الحال عليه ولكونه مقهورا فى يد الشيطان، وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان فى التسويف يوما فيوما إلى أن يختطفه الموت، ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت. قال: وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا

، وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عزّ وجل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ

؛ فنبّه على أنّ العلم بنفاسته هو المرغّب عن عوضه. قال:

ولمّا لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن محبوب فى أحبّ منه

قال رجل:

اللهمّ أرنى الدنيا كما تراها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل هذا ولكن قل اللهمّ أرنى الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك»

. وهذا لأن الله يراها حقيرة كما هى، وكلّ مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقير، والعبد يراها حقيرة فى حقّ نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له [١] ، ولا يتصوّر أن يرى بائع الفرس وإن رغب عن فرسه كما يرى حشرات الأرض [مثلا [٢]] ، لأنّه مستغن عن الحشرات أصلا وليس مستغنيا عن الفرس؛ والله تعالى غنىّ بذاته عن كلّ ما سواه، فيرى الكلّ فى درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله، ويراها متفاوتة بالإضافة إلى غيره، والزاهد هو الذى يرى تفاوتها بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره.


[١] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «الى ما هو خير منه» .
[٢] زيادة عن الاحياء.