للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمّا العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك وأخذ، لأنه بيع ومعاملة واستبدال الذى هو خير بالذى هو أدنى. فكما أنّ العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع [١] وإخراجه عن اليد وأخذ العوض، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلّية وهى الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها، فيخرج من القلب حبّها ويدخل حبّ الطاعات ويخرج من اليد والعين ما أخرجه من القلب، ويوظّف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف من الطاعات، وإلّا كان كمن سلّم المبيع ولم يأخذ الثمن. فإذا وفّى شرط الحالتين فى الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذى بايع به، فإن الذى بايعه بهذا البيع وفىّ بالعهد؛ فمن سلّم حاضرا فى غائب وسلّم الحاضر وأخذ يسعى فى طلب الغائب سلّم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد. وما دام ممسكا للدّنيا فلا يصح زهده أصلا، ولذلك لم يصف الله تعالى إخوة يوسف بالزهد فى بنيامين وإن كانوا قد قالوا:

لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا

، وعزموا على إبعاده كما عزموا على إبعاد يوسف حتى شفع فيه أحدهم فترك، ولا وصفهم أيضا بالزهد فى يوسف عند العزم على إخراجه إلا عند التسليم والبيع. فعلامة الرغبة الإمساك، وعلامة الزهد الإخراج. فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط، ولست زاهدا مطلقا؛ وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصوّر منك الزهد، لإنّ ما لا تقدر عليه لا تقدر على تركه. وربما يستهو يك الشيطان بغروره ويخيّل [إليك [٢]] أنّ الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهد فيها، فلا ينبغى أن تتدلّى بحبل


[١] كذا بالإحياء. وفى الأصل: «هو بدل البيع» .
[٢] زيادة عن الإحياء.