للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفعل بنفسه ما شاء. قال: والذى يضطرّ الإنسان إليه من الجاه والمال ليس بمحدود؛ فالزائد منه على الحاجة سمّ قاتل، والاقتصار على قدر الضرورة دواء نافع، وما بينهما درجات متشابهة، فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سمّا قاتلا فهو مضرّ، وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء نافعا لكنّه قليل الضرر. والسمّ محظور شربه، والدواء فرض تناوله، وما بينهما مشتبه أمره. فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه، ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه، ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وردّ نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرقة الناجية لا محالة. والمقتصر على [قدر [١]] الضرورة والمهمّ لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا، بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين، والشرط من جملة المشروط.

وقد روى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فرجع مهموما. فأوحى الله تعالى إليه: لو سألت خليلك لأعطاك. فقال: يا ربّ، عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا. فأوحى الله إليه: ليس الحاجة من الدنيا. فعلى هذا يكون قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال فى الآخرة؛ وهو أيضا فى الدنيا كذلك، يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة فى كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذّلّ فيه؛ وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلوه، وربما يكونون أعداء له، وقد يستعينون به على المعاصى فيكون هو معينا لهم عليها. ولذلك شبّه جامع الدنيا ومتّبع الشهوات بدود القزّ إذ لا يزال ينسج على نفسه حيّا [٢] ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذى عمله بنفسه؛ فكذلك كلّ من اتبع شهوات الدنيا. قال الشاعر:


[١] الزيادة عن الإحياء.
[٢] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «ينسج على نفسه حتى يقتلها ثم يروم» .