للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من الرّهابين [١] من ردّوا أنفسهم كل يوم الى نزر يسير من الطعام ولازموا ديّرا لا باب له، وإنما مسرّة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له؛ فذلك لا يدلّ على الزهد دلالة قاطعة؛ بل لا بدّ من الزهد فى المال والجاه جميعا حتى يكمل الزهد فى [٢] جميع حظوظ النفس من الدنيا؛ بل قد يدّعى جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخوّاص فى وصف المدّعين إذ قال: وقوم ادّعوا الزهد ولبسوا الفاخر من الثياب يموّهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلّا ينظر إليهم بالعين التى ينظر بها الى الفقراء فيحقروا فيعطوا كما يعطى المساكين ويحتجّون لأنفسهم باتّباع العلم وأنّهم على السنّة وأنّ الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها، وإنما يأخذون [ما يأخذون [٣]] بعلّة غيرهم؛ هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق. وكلّ هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادّعوها حالا لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. هذا كلام الخوّاص.

قال الغزالىّ رحمه الله: فإذا معرفة الزهد أمر مشكل، [بل حال الزهد على الزاهد مشكل [٢]] ؛ فينبغى أن يعوّل فى باطنه على ثلاث علامات:

العلامة الأولى: ألّا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود، كما قال الله تعالى:

لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ

، بل ينبغى أن يكون بالضدّ من ذلك وهو أن يحزن لوجود المال ويفرح لفقده.

العلامة الثانية: أن يستوى عنده ذامّه ومادحه؛ فالأولى علامة الزهد فى المال، والثانية علامة الزهد فى الجاه.


[١] الرهابين: جمع رهبان وهو الكثير الخوف.
[٢] كذا فى الإحياء. وفى الأصل:
«حتى يكمل الزهد بل فى جميع ... الخ» .
[٣] زيادة من الإحياء.