للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العلامة الثالثة: أن يكون أنسه بالله عز وجل، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب من حلاوة المحبّة، إما محبّة الدنيا وإما محبّة الله، وهما فى القلب كالماء والهواء فى القدح؛ فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان؛ وكلّ من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره. وقد قال أهل المعرفة: إذا تعلّق الإيمان بظاهر القلب أحبّ الدنيا والآخرة جميعا وعمل لهما، وإذا بطن الإيمان فى سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا ولم ينظر إليها ولم يعمل لها. وقد ورد فى دعاء آدم عليه السلام: اللهمّ إنّى أسألك إيمانا يباشر قلبى. وقال أبو سليمان: من شغل بنفسه شغل عن الناس، وهذا مقام العاملين. ومن شغل بربّه شغل عن نفسه، وهذا مقام العارفين. والزاهد لا بدّ أن يكون فى أحد هذين المقامين.

وبالجملة فعلامة الزهد استواء الفقر والغنى والعزّ والذّلّ والمدح والذمّ، وذلك لغلبة الأنس بالله. ويتفرّع عن هذه العلامات علامات أخر مثل أن يترك الدنيا ولا يبالى من أخذها. وقيل: علامته أن يترك الدنيا كما هى فلا يقول: أبنى رباطا أو أعمر مسجدا؛ وهذا من كلام الأستاذ أبى علىّ الدقّاق. وقال ابن خفيف: علامته وجود الراحة فى الخروج من الملك. وقال الجنيد: علامته خلوّ القلب عمّا خلت منه اليد. وقال أحمد بن حنبل وسفيان: علامة الزهد قصر الأمل. وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكّل وألبس برد الزهد وأقعد مع الزاهدين؟

فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك فى السرّ إلى حدّ لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف فى نفسك؛ فأمّا ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح. قالوا: ولا يتمّ الزهد إلا بالتوكّل؛ فلنذكر التوكّل.