تعالى؛ وكذلك لو لم يزرع الأرض وطمع أنّ الله تعالى يخلق نباتا من غير بذر أو تلد زوجه من غير مباضعة كمريم، فكلّ ذلك جنون؛ بل يجب عليه أن يعلم أن الله تعالى خالق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة، وأنّه الذى يطعمه ويسقيه، وأن يكون قلبه واعتماده على فضل الله تعالى لا على اليد والطعام، فليمدّ يده ويأكل فإنه متوكل.
والدرجة الثانية: الأسباب التى ليست متعيّنة، ولكن الغالب أن المسبّبات لا تحصل دونها واحتمال حصولها دونها بعيد كالذى يفارق الأمصار والقوافل ويسافر فى البوادى التى لا يطرقها الناس إلا نادرا ويكون سفره من غير استصحاب زاد، فهذا ليس شرطا فى التوكّل، بل استصحاب الزاد فى البوادى سنّة الأوّلين مع الاعتماد على فضل الله عز وجل لا على الزاد؛ ولكن فعل ذلك جائز، وهو من أعلى مقامات التوكل وهو فعل الخواصّ. قال الغزالىّ: فإن قلت: فهذا سعى فى الهلاك وإلقاء النفس إلى التّهلكة، فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراما بشرطين: أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها حتى صبرت عن الطعام أسبوعا أو ما يقاربه بحيث إنه لا يناله ضيق قلب ولا تشويش خاطر. والثانى أن يكون بحيث يقوى على التقوّت بالحشيش وما يتّفق من الأشياء الخسيسة، فإنه لا يخلو غالب الأمر فى البوادى فى كلّ أسبوع أن يلقاه آدمى أو ينتهى إلى محلّة أو قرية أو الى حشيش يتقوّت به؛ وعلى هذا كان يعوّل الخوّاص ونظراؤه من المتوكّلين. وقد كان الخوّاص مع توكّله لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة، ويقول: هذا لا يقدح فى التوكّل.
وأمّا لو انحاز الى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلا فهو آثم به ساع فى إهلاك نفسه.