للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمّا القاعد فى البلد بغير كسب فليس ذلك حراما، لأنه لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخّر عنه. فإن أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام. فإن فتح باب البيت وهو بطّال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج له أولى، ولكن ليس فعله حراما إلّا أن يشرف على الموت، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب. وإن كان مشغول القلب بالله غير متطلّع إلى الناس ولا إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزق، بل تطلّعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكّل، فإن الرزق يأتيه لا محالة. فلو هرب العبد من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه.

قال ابن عباس رضى الله عنهما: اختلف الناس فى كلّ شىء إلا فى الرزق والأجل [فإنّهم [١]] أجمعوا أن لا رازق ولا مميت إلا الله تعالى.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكّلتم على الله تعالى حقّ توكّله لرزقكم [٢] كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ولزالت بدعائكم الجبال»

. وقال عيسى عليه السلام: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدّخر والله تعالى يرزقها يوما بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطونا، فانظروا إلى الأنعام كيف قيّض الله تعالى لها هذا الخلق [للرزق [١]] . وقال أبو يعقوب السوسى: المتوكّلون تجرى أرزاقهم على أيدى العباد بلا تعب منهم وغبرهم مشغولون مكدودون. وقال بعضهم: العبيد كلّهم فى رزق الله تعالى، لكن بعضهم يأكل بذلّ كالسّؤال، وبعضهم يأكل بتعب كالتجّار، وبعضهم بامتهان كالصنّاع، وبعضهم بعزّ كالصوفيّة، يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة.

والدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التى يتوهّم إفضاؤها إلى المسبّبات من غير ثقة ظاهرة، كالذى يستقصى فى التدبيرات الدقيقة فى تفصيل الاكتساب ووجوهه،


[١] زياة عن الإحياء.
[٢] كذا فى الإحياء. وفى الأصلين: «لرزقتم ... » .