وقيل: بعث بعض الملوك فى رجل وجد عليه فظفر به، فلما مثل بين يديه قال: أيها الأمير، إنّ الغضب شيطان فاستعذ بالله منه، وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيىء، فلا يضيق علىّ ما يسع الرعيّة من حلمك وعفوك؛ فعفا عنه وأطلق سبيله.
وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إنّ القدرة تذهب الحفيظة، وأنت تجلّ عن العقوبة، ونحن مقرّون بالذنب، فإن تعف عنّى فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبنى فأهل ذلك أنا؛ فعفا عنه.
وقيل: أتى الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم فقتلوا، حتى قدّم شابّ منهم فقال: والله يا حجّاج إن كنا أسأنا فى الذنب فما أحسنت فى العفو؛ فقال الحجاج: أفّا لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا! وأمسك عن القتل.
وأتى الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجّاج عن السّنّة خيرا، فإنّ الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً
، فهذا قول الله تعالى فى كتابه، وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجّاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبرونى ما أخبرنى به هذا المنافق! وأمسك عمن بقى.