للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عمياء فى المدينة بالليل، فيقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، ففعل ما أرادت، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر رضى الله عنه، كان يأتيها ويقضى أشغالها سرّا وهو خليفة؛ فقال:

أنت هو لعمرى! وكان منزل أبى بكر رضى الله عنه بالسّنح [١] عند زوجته حبيبة بنت خارجة، فأقام هناك ستة أشهر بعد ما بويع، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة، وربّما ركب فرسه، فيصلّى بالنّاس؛ فإذا صلّى العشاء رجع إلى السّنح. وكان إذا غاب صلّى بالنّاس عمر، وكان يغدو كلّ يوم إلى السّوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربّما خرج هو بنفسه فيها، وربّما رعيت له، وكان يحلب للحىّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم:

الآن لا يحلب لنا منائح [٢] دارنا، فسمعها، فقال: بل لعمرى لأحلبنّها لكم، وإنى لأرجو ألا يغيّرنى ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، ثمّ تحوّل إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته. وقال: لا تصلح أمور النّاس مع التجارة، وما يصلح إلا التّفرغ لهم؛ والنظر فى شأنهم، فترك التجارة، وأنفق من مال المسلمين، ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، ويحجّ ويعتمر؛ فكان الذى فرضوا له فى كلّ سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردّوا ما عندنا من مال المسلمين، فإنّى لا أصيب من هذا المال شيئا، وإنّ أرضى الذى بكذا وكذا للمسلمين


[١] السنح، إحدى محال المدينة.
[٢] المنيحة: الناقة تدر اللبن؛ وجمعها منائح.