للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما كثرت الشّناعة فى ذلك صار يجمع الناس ويخرج إليهم من القماش الكمخا والصوف والنّصافى [١] وغير ذلك، فينادى منه على خمسة قطع أو عشرة من أجوده، ويقول للتجار: اشتروا بالقيمة، فينتهى إلى قيمتها/ (٤٧) ثم ترفع إلى حاصله، ويخرج من جنسها ما يساوى أقل من نصف قيمتها، فيعطاه الناس بما انتهت إليه قيمة الجيّد منه، ويفرق عليهم، فكان الذى يأخذه الناس لا يقوم لهم بنصف الثمن الذى يعطونه، ومنه ما لا يحفظ الثلث- وحكى لى بعض من أثق به من التجار العدول كثيرا من ذلك- ثم يستخرج الثمن منهم بأشد طلب وأعنفه، فتضرّر الناس لذلك، وانكسر جماعة منهم، وغلّقوا دكاكينهم، ومنهم من تسحب.

ثم خرج عن هذا الحد إلى تعطيل الأحكام الشرعية، والعمل بغير حكم الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان يخرج ما لا فى بعض الأوقات إذا برض [٢] ، ويرسم أن يصالح أرباب الديون على مالهم فى ذمة من اعتقلوه، ويفرج عنهم، فيطلب المعتقل ومن اعتقله، ويسأل رب الدين عن دينه، ويلزم باحضار وثيقته، فإن اعتذر عن إحضارها رسم عليه حتى يحضرها، فإذا أحضرها أخذت منه، وأمر أن يصرف له عشر مبلغها، أو أقل منه، أو أكثر بيسير، فإن رضى بذلك وإلا قطعت وثيقته، وأفرج عن المعتقل، ويرسم فى بعض الأوقات على بعض أرباب الديون حتى يشهدوا عليهم ببراءة غرمائهم فإذا تكامل ذلك أمر كريم الدين أن تغلق أبواب السجون الحكمية، ويمنع نواب الحكام من سماع الدعاوى فى الديون الشرعية، فتعطلت الأحكام الشرعية، وتضرر الناس، وكان هذا الفعل من أشد ما فعله، ولا يتجاسر أحد أن يذكر ذلك له، ولا يعيبه عليه، حتى صار المنكر لذلك ينكره بقلبه، وهو أضعف الإيمان.

وكان كثير من المرائين يحسنون/ (٤٨) له فعله، ويشكرونه عليه، ويدعون له، فحصل للناس التضرر التام، حتى كادت المعاملات أن تنقطع من بين الناس.


[١] لعله جمع النصيف، وهو الخمار، والعمامة، وكل ما يغطى الرأس، ومن معانيه أيضا: البرد- بضم فسكون- له لونان (تاج العروس مادة/ ن ص ف) .
[٢] يقال: برض فلان (بالبناء للمجهول) إذا نفد ماله من كثرة العطاء، ويقال: برض له من ماله: إذا أعطاه شيئا قليلا (المعجم الوسيط) ، والمعنى على هذا: أنه يلجأ إلى هذه الحيلة كلما بدت له ضائقة مالية.