مع شدّة السلطان في الغناء وندائه فيه. فقلت له: أتردّهم؟ قال: لا والله! فكيف لى بالعود؛ فقلت: أنا أخبؤه لك فشأنك. فركب وسترت العود فأردفنى. فلما كنّا ببعض الطريق إذا بنافع بن علقمة قد أقبل؛ فقال لى: يابن بركة، هذا الأمير. فقلت له: لا بأس عليك! أرسل عنان البغلة وامض ولا تخف، ففعل.
فلما حاذيناه عرفنى ولم يعرف ابن سريج، فقال لى: يابن بركة، من هذا أمامك؟
قلت: من ينبغى أن يكون! هذا ابن سريج؛ فتبسّم ثم تمثّل:
فإن تنج منها يا أبان مسلّما ... فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب
ثم مضى ومضينا. فلما كنّا قريبا من القوم نزل إلى شجرة يستريح. فقلت له: غنّنى مرتجلا؛ فرفع صوته فخيّل إلىّ أن الشجرة تنطق معه، فغنّى وقال:
كيف الثّواء ببطن مكة بعد ما ... همّ الذين تحبّ بالإنجاد
أم كيف قلبك إذ ثويت مخمّرا ... سقما خلافهم وكربك «١» بادى
هل أنت إن ظعن الأحبّة غادى ... أم «٢» قبل ذلك مدلج بسواد
قال: فقلت: أحسنت والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة! ولو أن كنانة كلّها سمعتك لاستحسنتك «٣» ، فكيف بنافع بن علقمة! المغرور من غرّه نافع. ثم قلت: زدنى وإن كان القوم متعلّقة قلوبهم بك؛ فغنّى وتناول عودا من الشجرة فوقّع به على الشجرة؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضّأن على العيدان إذا أخذتها عيدان الدّفلى «٤» ، وغنّى:
لا تجمعى هجرا علىّ وغربة ... فالهجر في تلف المحبّ سريع