للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السافر؛ وطالما غرّ وأغرى، وجرّ وأجرى، وضرّ وأضرى؛ فلما توكّل مولانا السلطان وعزم وعزم فتوكّل، وتحقّق أن البلاء به قد نزل، وما تشكّك أن ذلك فى ذهن القدر قد تصوّر وتشكّل؛ وأنّ يومه فى الفتك سيكون أعظم من أمسه وأعظم منهما معاداة غده، وأن نصر الله لن يخلفه صادق موعده، أكل يده ندامة على ما فرّط فى جنب الله؛ وساق الحتف لنفسه بيده فعمر الله بروحه الخبيثة الدّرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأسا بعد كأس لم يكن لها غير الهلك من خمار.

وكانت طرابلس هى ضالّة الإسلام الشريدة، وإحدى آبقاته من الأعوام العديدة؛ وكلما مرّت شمخت بأنفها، وتأنّقت فى تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها، ومرّت وهى لا تغازل ملكا بطرفها وكلما تقادم عهدها تكثرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها؛ إذ البحر لها جلباب والسحاب لها خمار، وليس بها من البرّ إلا بمقدار ساحة الباب من الدار؛ كأنها فى سيف ذلك البحر جبل قد انحطّ، أو ميل استواء قد خرج عن الخط، وما قصد أحد شطّها بنكاية إلا شطّ واشتط؛ قدّر الله أن صرف مولانا السلطان إليها العنان، وسبق جيشه اليها كلّ خبر وليس الخبر كالعيان، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد أحرسته عيونها وتلك المخاوف كلّهن أمان، وقد اتخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمدّ عنان؛ وفى خدمته جنود لا تستبعد مفازة، وكم راحت وغدت وفى نفوسها للأعداء حزازة؛ فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجانا لها صاغتها الثّلوج، ومعارج لا ترافق بها غير الرياح الهوج؛ وانحطّت تلك الجيوش من تلك الجنادل، انحطاط الأجادل، واندفعوا فى تلك الأوعار اندفاع الأوعال، ولم يحفل أحد منهم بسرب لاصق ولا بجبل شاهق فقال: هذا منخفض أو عال؛ وشرعوا فى التحصيل لما يوهى ذلك التحصين، وابتناء كلّ سور أمام أسوارها من التدبير الحسن والرأى الرصين؛ فما لبثوا إلا مقدار ما قيل