للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال الجنيد: كان الشافعىّ رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحقّ فى الدين، وعظ أخا له فى الله تعالى وخوّفه بالله فقال: يا أخى، إنّ الدنيا دحض مزلّة، ودار مذلّة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر؛ شملها على الفرقة موقوف، وغتاها إلى الفقر مصروف؛ الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار؛ فافزع إلى الله وارض برزق الله. لا تستسلف من دار بقائك فى دار فنائك، فإن عيشك فىء زائل، وجدار مائل؛ أكثر من عملك، وقصّر من أملك. وهذا من أبلغ المواعظ والترغيب.

ومن المواعظ ما قاله أبو الدرداء رضى الله عنه: والله لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصّعدات [تجأرون و [١]] تبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلّا ما لا بدّ لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة وحضرها الأمل، فصارت الدنيا أملك بأعمالكم وصرتم كالذين لا يعلمون، فبعضكم شرّ من البهائم التى لا تدع هواها مخافة مما فى عاقبته. ما لكم لا تحابّون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين [الله [١]] ؛ ما فرّق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البرّ لتحاببتم. ما لكم تناصحون [٢] فى أمر الدنيا ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبّه ويعينه على أمر آخرته! ما هذا إلا من قلّة الإيمان فى قلوبكم.

لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرّها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الاخرة لأنها أملك بأموركم. فإن قلتم: حبّ العاجلة غالب؛ فإنّا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للآجل مما تكدّون أنفسكم بالمشقّة والاحتراف فى طلب أمر لعلكم لا تدركونه.


[١] زيادة عن الإحياء.
[٢] فى الأصلين: «ما لكم لا تناصحون فى أمر الدنيا» بدخول لا النافية والسياق يقتضى حذفها. وفى الإحياء: «ما لكم تناصحون فى أمر الدنيا ولا تناصحون فى أمر الآخرة ولا يملك أحدكم ... » .