فلمّا فرغ من عتابه نفسه مدّوه بين خشبتين ثم وضعوا سيفا على مفرق رأسه فنشروه حتى سقط من بين رجليه وصار قطعتين، فعمدوا إلى أجزائه فقطّعوها قطعا، وللملك سبعة أسود ضارية، وكانوا صنفا من أصناف عذابه، فرموا بجسده إليها. فأمرها الله تعالى فخضعت له برءوسها وأعناقها وقامت على براثنها، فظلّ يومه ذلك ميّتا وهى أوّل موتة ماتها. فلمّا أدركه الليل جمع الله جسده الذى قطّعوه بعضه إلى بعض حتى سوّاه، ثم ردّ الله تعالى اليه روحه وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجبّ فأطعمه وسقاه وبشّره وعزّاه. فلمّا أصبحوا قال له الملك: يا جرجيس، قال: لبيك! قال: اعلم أنّ القدرة التى خلق الله تعالى بها آدم من التراب هى التى أخرجتك من قعر الجبّ، الحق بعدوّك وجاهده فى الله حقّ جهاده ومت موت الصابرين. فلم يشعر الملك وأصحابه إلّا وقد أقبل جرجيس وهم فى عيد لهم عكوف عليه صنعوه فرحا بموت جرجيس. فلمّا نظروا إليه وقد أقبل قال الملك: ما أشبه هذا بجرجيس! قالوا: كأنه هو. قال الملك: ما بجرجيس من خفاء إنه لهو، ألا ترون الى سكون ريحه وقلّة هيبته. قال جرجيس:
أنا هو، بئس القوم أنتم! قتلتم ومثّلتم فأحيانى الله بقدرته، فهلّموا الى هذا الرب العظيم الذى أراكم ما أراكم. فلما قال لهم ذلك أقبل بعضهم على بعض وقالوا:
ساحر سحر أعينكم. وجمعوا من كان ببلادهم من السحرة. فلمّا جاءوا قال الملك لكبيرهم: اعرض علىّ من كبير سحرك ما يقرّ عينى. قال: ادع لى بثور من البقر.
فلمّا أتى به نفث فى إحدى أذنيه فانشقّت باثنتين، ثم نفث فى الأخرى فإذا هو ثوران، ثم دعا ببذر فحرث وبذر، فشبّ الزرع واستحصد، ثم درس وذرى وطحن وعجن وخبز، كلّ ذلك فى ساعة واحدة. فقال الملك: هل تقدر أن تمسخه لى دابّة؟ قال الساحر: أىّ دابّة أمسخه لك؟ قال: كلبا. قال: ادع لى بقدح من ماء.