قال: وقد كان عيسى بن مريم عليه السلام قبل أن يرفعه الله يحدّث عنهم وعن إيمانهم وبصيرتهم، وكيف تفكّروا فى عظمة إلهم، وكيف ألقى الله عليهم السّبات فى كهفهم، وكيف أخفى مكانهم عن الناس، ولا ينبغى لأحد أن يهتدى إليهم ولا يعرف مكانهم، وكان يخبر أنّ الله سيردّ إليهم أرواحهم ويدلّ على كهفهم ليكونوا عبرة لمن خلفهم إن أراد أن يعتبر بهم.
قال: فردّ الله اليهم أرواحهم بعد أن لبثوا فى كهفهم العدّة التى ذكرها الله عزّ وجلّ فى القرآن ولزمهم كلبهم، فلبث سنيهم كلّها، كما أخبر الله تعالى:(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)
. والوصيد: فناء الكهف الذى فيه موضع الباب، وكان الكلب من كلاب صيدهم ولم يطعم ولم يشرب ليجعله الله آية من آياتهم.
قال: فلمّا ردّ الله عليهم أرواحهم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)
إلى قوله:(وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)
وهم حينئذ يظنّون أنّ قومهم أحياء، وأنهم على ما يعهدون من حالهم وشركهم وعتوّ ملكهم، فانطلق رجل منهم يقال له تمليخا، وكان أشدّهم وأنجدهم، فتوجّه حتى إذا خالط ربض المدينة أنكره وأنكر ما وجد به من الناس والدوابّ والبنيان وغير ذلك، ووجد الناس على حال لم يكن يعهدها وسنّة لم يكن يعرفها، ووجدهم يبتاعون بورق لا يشبه الورق الذى معه، فتحيّر وأنكر وأقبل وأدبر، وأبطأ على أصحابه حتى خافوا عليه، وظنّوا أنه فطن به وقدر عليه. فلمّا طال عليه ذلك دخل المدينة من ناحية أخرى من نواحيها خفية فوجد حال أهل المدينة على حال أهل الرّبض فى كلّ شىء، فلمّا شكّ وارتاب والتبس عليه رأيه عمد إلى مشيخة من أهل المدينة توسّم فيه الخير ليتجسّس ويسمع قولهم، فوجد معهم الإنجيل يقرءونه، فسمع ما فيه من توحيد الله وعظمته وعذابه وسنّته وشرائعه وحلاله وحرامه، فعرف ذلك وأذعن اليه وأنصت يسمع حتى إذا