لأن الحكيم من استطال رأيه على هواه، وتسلطت حكمته على شهوته. فرعونات طبعه مقيّدة أبدا كصبىّ بين يدى معلمه أو عبد بمرأى سيده؛ وما كان العشق قط إلا لأرعن بطّال. وقلّ أن يكون لمشغول بصناعة أو بتجارة، فكيف لمشغول بالعلوم والحكم، فإنها تصرفه عن ذلك. ولهذا لا تكاد تجده في الحكماء.
وقال ابن عقيل: العشق مرض يعترى النفوس العاطلة، والقلوب الفارغة المتلمحة للصور لدواع من النفس، ويساعدها إدمان المخالطة، فيتأكد الإلف ويتمكن الأنس، فيصير بالإدمان شغفا. وما عشق قط إلا فارغ. فهو من علل البظّالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر، وطلب الحقائق؛ المستدل بها على عظم الخالق. ولهذا قلما تراه إلا في الرّعن البطرين، وأرباب الخلاعة النّوكى. وما عشق حكيم قط: لأن قلوب الحكماء أشدّ تمنعا عن أن توقفها صورة من صور الكون مع شدّة تطلبها، فهى أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف. وقلّ أن يحصل عشق من لمحة، وقلّ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة، فإنه مارّ في طلب المعانى، ومن كان طالبا لمعرفة الله لا توقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن الصور.
وقال ابن الجوزىّ: واعلم أن العشاق قد جاوزوا حدّ البهائم في عدم ملكة النفس فى الانقياد إلى الشهوات: لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهى أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أىّ موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضمّوا شهوة إلى شهوة، وذلّوا للهوى ذلّا على ذل. والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها حسب. وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم.
ثم قال: والعشق بيّن الضرر في الدّين والدنيا. أما في الدّين فإنه يشغل القلب عن الفكر فيما له خلق: من معرفة الله تعالى، والخوف منه، والقرب إليه. ثم ينفذ ما ينال