وأما من قتل نفسه بسبب العشق، فحكى عن عبد الرحمن بن إسحاق القاضى قال: انحدرت من «سرّ من رأى» مع محمد بن إبراهيم أخى إسحاق، ودجلة تزخر من كثرة مائها. فلما سرنا ساعة، قال: ارفقوا بنا، ثم دعا بطعامه فأكلنا، ثم قال:
ما ترى في النبيذ؟ قلت له: أعز الله الأمير، هذه دجلة قد جاءت بمدّ عظيم يرغب مثله، وبينك وبين منزلك مبيت ليلة، فلو شئت أخرته، قال: لا بدّ لى من الشراب، واندفعت مغنية فغنّت، واندفعت أخرى فغنته:
يا رحمتا للعاشقينا، ... ما إن أرى لهم معينا!
كم يشتمون ويضربو ... ن ويهجرون، فيصبرونا!
فقالت لها المغنية الأولى: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، ورفعت الستارة وقذفت بنفسها في دجلة. وكان بين يدى محمد غلام ذكر أنّ شراءه ألف دينار، بيده مذبّة، لم أر أحسن منه. فوضع المذبّة من يده وقذف بنفسه في دجلة، وهو يقول:
أنت التى غرّقتنى ... بعد الفضا، لو تعلمينا!
فأراد الملاحون أن يطرحوا أنفسهم خلفهما، فصاح بهم محمد: دعوهما يغرقا إلى لعنة الله! قال: فرأيتهما وقد خرجا معتنقين ثم غرقا.
وحكى عن جميل بن معمر العذرىّ أنه قال: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لى: يا جميل حدّثنى بعض أحاديث بنى عذرة، فإنه بلغنى أنهم أصحاب أدب وغزل، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، انتجعوا عن حيّهم مرة فوجدوا النّجعة بموضع نازح فقطنوه. فخرجت أريدهم. فبينا أنا أسير، غلطت الطريق وجنّ علىّ الليل،