شَهِدنَا فَلم يقدر الأفشين عَلَيْهِ وَصَارَ ابْن أبي دؤاد إِلَى المعتصم من وقته وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أدّيت عَنْك رِسَالَة لم تقلها لي مَا أَعْتَد بِعَمَل خيرٍ خيرا مِنْهَا وَإِنِّي لأرجو لَك الْجنَّة بهَا ثمَّ أخبرهُ الْخَبَر فصوب رَأْيه وَوجه أحضر أَبَا دلف فَأَطْلقهُ ووهب لَهُ وعنف الأفشين فِيمَا عز عَلَيْهِ
وَكَانَ المعتصم قد اشْتَدَّ غيظه على مُحَمَّد بن الجهم الْبَرْمَكِي فَأمر بِضَرْب عُنُقه فَلَمَّا رأى ابْن أبي دؤاد ذَلِك وَأَن لَا حِيلَة لَهُ فِيهِ وَقد شدّ بِرَأْسِهِ وأقيم فِي النطع وهز لَهُ السَّيْف قَالَ ابْن أبي دؤاد وَكَيف تَأْخُذ مَاله إِذا قتلته قَالَ وَمن يحول بيني وَبَينه قَالَ يَأْبَى الله ذَلِك ويأباه رَسُوله ويأباه عدل أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن المَال للْوَارِث إِذا قتلته حَتَّى تقيم الْبَيِّنَة على مَا فعله وَأمره فِي اسْتِخْرَاج مَا اختانه أقرب عَلَيْك وَهُوَ حَيّ فَقَالَ أحبسوه حَتَّى يناظر فَتَأَخر أمره على مَال حمله وخلص مُحَمَّد وَله فِي تَرْجَمته فِي تَارِيخ ابْن خلكان وَغَيره عدَّة مَنَاقِب من هَذَا النَّوْع
وَقَالَ الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك الشَّاعِر الْمَشْهُور لبَعض الْمُتَكَلِّمين ابْن أبي دؤاد عندنَا لَا يعرف اللُّغَة وَعند الْفُقَهَاء لَا يحسن الْفِقْه وعندكم لَا يعرف الْكَلَام وَهُوَ عِنْد المعتصم يعرف هَذَا كُله
وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن الْحسن كُنَّا عِنْد الْمَأْمُون فَذكرُوا من بَايع من الْأَنْصَار لَيْلَة الْعقبَة فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِك وَدخل ابْن أبي دؤاد فعدهم وَاحِدًا وَاحِدًا بِأَسْمَائِهِمْ وَكُنَاهُمْ وأنسابهم فَقَالَ الْمَأْمُون إِذا استجلس النَّاس فَاضلا فَمثل أَحْمد فَقَالَ ابْن أبي دؤاد إِذا جَالس الْعَالم خَليفَة فَمثل أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي يفهم عَنهُ وَيكون أعلم مِنْهُ بِمَا يَقُوله وَكَانَ الواثق قد أَمر أَن لَا يرى أحد من النَّاس مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات الْوَزير إِلَّا قَامَ لَهُ فَكَانَ ابْن أبي دؤاد إِذا رَآهُ قَامَ واستقبل الْقبْلَة فصلى فَقَالَ ابْن الزيات)
(صلى الضُّحَى لما اسْتَفَادَ عَدَاوَتِي ... وَأرَاهُ ينْسك بعْدهَا ويصوم)
(لَا تعد منّ عَدَاوَة مَسْمُومَة ... تركتك تقعد تَارَة وَتقوم)
وهجا بعض الشُّعَرَاء ابْن الزيات بقصيدة عَددهَا سَبْعُونَ بَيْتا فَبلغ الْخَبَر ابْن أبي دؤاد فَقَالَ
(أحسن من سبعين بَيْتا هجا ... جمعك معناهن فِي بَيت)
(مَا أحْوج النَّاس إِلَى مطرةٍ ... تغسل عَنْهُم وضر الزَّيْت)
فَبلغ الْخَبَر ابْن الزيات فَقَالَ إِن بعض أجداد القَاضِي كَانَ يَبِيع القار وَقَالَ
(يَا ذَا الَّذِي يطْمع فِي هجونا ... عرضت بِي نَفسك للْمَوْت)
(الزَّيْت لَا يزري بأحسابنا ... أحسابنا مَعْرُوفَة الْبَيْت)
(قيرتم الْملك فَلم ينقه ... حَتَّى غسلنا القار بالزيت)