ولّما صنف كتاب القانون المَسْعُودِيّ أجَازه السُّلْطَان بِحمْل فيلٍ من نَقده الفضّي فردّه إِلَى الخزانة بِعُذْر الِاسْتِغْنَاء عَنهُ وَكَانَ مكباً على تَحْصِيل الْعُلُوم وَلَا يكَاد يُفَارق الْقَلَم يَده وَلَا عينه النّظر فِي الْكتب وَقَلبه الْفِكر إِلَّا فِي يومي النوروز والمهرجان حدث القَاضِي كثير بن يَعْقُوب النَّحْوِيّ البغداذي عَن الْفَقِيه أبي الْحسن عَليّ بن عِيسَى الْوَلْوَالجيّ قَالَ دخلت على أبي الريحان وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ وَقد حشرج نَفسه وضاق بِهِ صَدره فَقَالَ لي فِي تِلْكَ الْحَال كَيفَ قلت لي يَوْمًا فِي حِسَاب الجدّات الْفَاسِدَة فَقلت لَهُ إشفاقاً عَلَيْهِ أَفِي هَذِه الْحَالة قَالَ ياهذا)
أودّع الدُّنْيَا وَأَنا عَالم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة أَلا يكون خيرا من أَن أخلّيها وَأَنا جَاهِل بهَا فَأَعَدْت ذَلِك عَلَيْهِ وَحفظ وعلّمني مَا وعد وَخرجت من عِنْده وَأَنا فِي الطَّرِيق فَسمِعت الصُّرَاخ عَلَيْهِ وَبلغ من حظوته عِنْد الْمُلُوك أَن شمس الْمَعَالِي قابوساً أَرَادَ أَن يستخلصه لنَفسِهِ على أَن تكون لَهُ الإمرة المطاعة فِي جَمِيع مَا يحويه ملكه ويشتمل عَلَيْهِ ملكه فَأبى وَلم يطاوعه وَلما سمح للملوك الخوارزمشاهيّة بذلك أنزلهُ فِي دَاره مَعَه ودخّل خوارزمشاه يَوْمًا وَهُوَ يشرب على ظهر الدَّابَّة فَأمر باستدعائه من الْحُجْرَة فَأَبْطَأَ قَلِيلا فتصّور الْأَمر على غير صورته وثنى الْعَنَان نَحوه ورام النُّزُول فسبقه أَبُو الريحان إِلَى البروز وَنَاشَدَهُ الله أَن لَا يفعل فتمثّل خوارزمشاه
(الْعلم من أشرف الولايات ... يَأْتِيهِ كلّ الورى وَلَا ياتي)
ثمَّ قَالَ لَوْلَا الرسوم الدُّنْيَوِيَّة لما استدعيتك فالعلم يَعْلُو وَلَا يعلى وَكَانَ لما توجّه السُّلْطَان مَحْمُود إِلَى غزنة وَاسْتولى على خوارزم قبض عَلَيْهِ عبد الصَّمد الْحَكِيم واتهمه بالقرمطة وَالْكفْر وأذاقه الْحمام وهم أَن يلْحق بِهِ أَبَا الريحان فَقيل لَهُ إِن هَذَا إِمَام وقته فِي علم النُّجُوم والملوك لَا يستغنون عَن مثله فَأَخذه مَعَه وَدخل بِهِ بِلَاد الْهِنْد وَأقَام بَينهم وَتعلم لغتهم واقتبس علومهم وَأقَام بغزنة حَتَّى مَاتَ بهَا عَن سنٍ عالية وَكَانَ حسن المحاضرة طيّب الْعشْرَة خليعاً فِي أَلْفَاظه عفيفاً فِي أَفعاله لم يَأْتِ الزَّمَان بِمثلِهِ علما وفهماً وَمن تصانيفه كتاب الْجمَاهِر فِي الْجَوَاهِر والصيدلة فِي الطِّبّ ومقاليد الْهَيْئَة وتسطيح الْهَيْئَة مقَالَة فِي اسْتِعْمَال آلَة الاسطرلاب الْكُبْرَى الزيج المَسْعُودِيّ صنّفه للْملك مَسْعُود بن سبكتكين والْآثَار الْبَاقِيَة عَن الْأُمَم الخالية والتفهيم فِي صناعَة التنجيم وتلافي عوارض الزّلّة فِي دَلَائِل الْقبْلَة وَأورد لَهُ ياقوت فِي مُعْجم الأدباء قَوْله لشاعر اجتداه
(يَا شَاعِرًا جَاءَنِي يخرى على الْأَدَب ... وافى ليمدحني والذمّ من أربي)
(وجدته ضارطاً فِي لحيتي سفهاً ... كلاّ فلحيته عثنونها ذَنبي)
(وذاكراً فِي قوافي شعره حسبي ... وَلست وَالله حَقًا عَارِفًا نسبي)
(إِذْ لست أعرف جدي حقّ معرفةٍ ... وَكَيف أعرف جدي إِذْ جهلت أبي)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute