شهَاب الدّين ابْن القيسراني قَالَ كنت يَوْمًا أَقرَأ الْبَرِيد على الْأَمِير سيف الدّين تنكز فَتحَرك على جَائِر الْمَكَان طَائِر فَالْتَفت إِلَيْهِ يَسِيرا وَرجع إِلَيّ وَقَالَ كنت يَوْمًا بالمرج وَشرف الدّين ابْن فضل الله يقْرَأ عَليّ بريداً جَاءَ من السُّلْطَان وَالصبيان قد رموا جلمة على عُصْفُور فاشتغلت بِالنّظرِ إِلَيْهَا فَبَطل الْقِرَاءَة وَأَمْسِكْنِي وَقَالَ يَا خوند إِذا قَرَأت عَلَيْك كتاب السُّلْطَان إجعل بالك كُله مني وَيكون كلك عِنْدِي لَا تشتغل بغيري أبدا وافهمه لَفْظَة لَفْظَة أَو كَمَا قَالَ وَمَا رأى أحد مَا رَآهُ من تَعْظِيمه فِي نفوس النَّاس وَكَانَ فِي مبدأ أمره يلبس القماش الفاخر وَيَأْكُل الْأَطْعِمَة المنوعة الفاخرة وَيعْمل السماعات المليحة ويعاشر الْفُضَلَاء مثل ابْن مَالك بدر الدّين وَغَيره ثمَّ انْسَلَخَ من ذَلِك كُله لما دَاخل الدولة وقتر على نَفسه وَاخْتصرَ فِي ملبسه وانجمع عَن النَّاس انجماعاً كلياً وَكَانَ قد سمع فِي الكهولة من ابْن عبد الدَّائِم وَأَجَازَ لَهُ ابْن مسلمة وَغَيره وَلما مَاتَ خلف نعْمَة طائلة
وَكَانَ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر قد نَقله من مصر إِلَى الشَّام عوضا عَن أَخِيه القَاضِي محيي الدّين لِأَن السُّلْطَان كَانَ قد وعد القَاضِي عَلَاء الدّين الْأَثِير لما كَانَ مَعَه بالكرك بالمنصب فَأَقَامَ بِدِمَشْق إِلَى سنة سبع عشرَة وَسبع ماية وَتُوفِّي رَحمَه الله تَعَالَى فِي شهر رَمَضَان
ورثاه القَاضِي شهَاب الدّين مَحْمُود وَهُوَ بِمصْر أَنْشدني ذَلِك إجَازَة وَكتب بهَا إِلَيّ القَاضِي محيي الدّين يحيي أَخِيه
(لتبكي الْمَعَالِي والنهى الشّرف الْأَعْلَى ... وتبك الورى الْإِحْسَان والحلم والفضلا)
(وتنتحب الدُّنْيَا لمن لم تَجِد لَهُ ... وَإِن جهدت فِي حسن أَوْصَافه مثلا)
)
(وَمن أتعب الناي أَتبَاع طَرِيقه ... فكفوا وأعيتهم طَرِيقَته المثلى)
(لقد أثكل الْأَيَّام حَتَّى تجهمت ... وَإِن كَانَت الْأَيَّام لَا تعرف الثكلا)
(وَفَارق مِنْهُ الدست صَدرا مُعظما ... رحيباً يرد الْحزن تَدْبيره سهلا)
(فكم حاط بِالرَّأْيِ الممالك فاكتفت ... بِهِ أَن تعد الْخَيل للصون والرجلا)
(وَكم جردت أَيدي العدى نصل كيدهم ... فَرد إِلَى أَعْنَاقهم ذَلِك النصلا)
(وَكم جلّ خطب لَا يحل انْعِقَاده ... فاعمل فِيهِ صائب الرَّأْي فانحلا)
(وَكم جَاءَ أَمر لَا يُطَاق هجومه ... فَلَمَّا تولى أَمر تَدْبيره ولى)
(وَكم كف محذوراً وَكم فك عانياً ... وَكم رد مَكْرُوها وَكم قد جلا جلى)