وفي سنة ستٍّ وثمانين (٧٨٦ هـ) رجع صاحبُ الترجمةِ مع وصيِّه إلى مصر - محلِّ إقامته -، واشتغل بحفظ عددٍ من مُختصرات العلوم، فحَفِظَ منها:"العُمدة"، و "الحاوي الصغير"، و "مُختصر ابن الحاجب الأصليّ"، و"مُلحة الحريريّ"، وغير ذلك، وعَرَضها -كما هي العادةُ آنذاك- على جماعةٍ من أئمة عصره، وكتبوا خُطوطهم له بذلك.
وقد أصابه بعد موت وصيِّه الخروبي سنة سبعٍ وثمانين (٧٨٧ هـ) فتورٌ عن الاشتغال بطلب العلم بُرهةً من الزَّمن؛ إذ لم يكن له من يحثُّه، إلّا أنّ هذه الفترة لا تعني تركه التحصيل بالكُلِّية، بل اشتغل بطلب ما غلب على العادةِ طلبُه من أصلٍ وفرعٍ ولغةٍ ونحوِها.
وما أنِ استكمل سبع عشرة سنة حتّى عادت المياهُ إلى مجاريها، ولازم العلّامةَ شمس الدين محمّد بن علي بن القطّان المصريّ (١) -أحدَ أوصيائه-، فحضر درَسه في الفقه وأصولِه والعربيةِ والحِساب وغيرِها، وقرأ عليه شيئًا كثيرًا من "الحاوي الصغير"، وأجازه.
وبإشارة أحد الخَيِّرين حُبِّبَ إليه النظرُ في التواريخ وأيام النّاس، فعَلِقَ بذهنه الصَّافي شيءٌ كثيرٌ من أحوال الرُّواةِ، كما نَظَرَ في فُنون الأدب من أثناء سنة اثنتينِ وتسعين (٧٩٢ هـ)، فتولّع بذلك حتّى كان لا يسمع شِعرًا إلّا ويستحضر من أين أخذه الناظمُ، وما زال يُتبعه خاطره حتّى فاق فيه وساد، وطارح الأُدباء، وقال الشِّعر الرائق، والنَّثر الفائق.
وكان أوّل ما طلب بنفسِه في سنة ثلاثٍ وتسعين (٧٩٣ هـ)، لكنّه لم يُكثر من الطَّلَبِ إلا في سنة ستٍّ وتسعين (٧٩٦ هـ)، فوَقْتَها واصلَ الغُدُوَّ والرَّواح إلى المشايخِ بالبواكر والعشايا وحَبَّبَ الله ﵎ إليه فَنَّ الحديث
(١) هو شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن عيسى السمنودي المعروف بابن القطان، مات سنة ثلاث عشرة وثمانمائة (٨١٣ هـ). انظر ترجمته في: المصدر السابق (٢/ ٣٢٩ - ٣٣١).