فإنه صحيح صريح ثابت مخرج في الصحاح والمسانيد المعروفة والسنن المشهورة وأحاديث الجهر وإن كثرت رواتها لكنها كلها ضعيفة وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه وهو حديث ضعيف بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً وإنما يرجح بكثرة الرواة إذا كانت الرواة محتجاً بهم من الطرفين وأحاديث الجهر لم يروها إلا الحاكم والدارقطني فالحاكم عُرف تساهله في التصحيح والدارقطني قد ملأ كتابه من الأحاديث الغريبة والشاذة والمعللة وأما الشهادة على النفي فهي وإن ظهرت في صورة النفي فمعناها الإثبات مع أن المسألة مختلف فيها على ثلاث أقوال فالأكثرون على تقديم الإثبات قالوا لأن المثبت معه زيادة علم وأيضاً فالنفي يزيد التأكيد لدليل الأصل والإثبات يفيد التأسيس والتأسيس أولى الثاني أنهما سواء قالوا لأن النافي موافق للأصل وأيضاً فالظاهر تأخير النافي عن المثبت إذ لو قدر مقدماً عليه لكانت فائدته التأكيد لدليل الأصل وعلى تقدير تأخيره يكون تأسيساً فالعمل به أولى القول الثالث إن النافي مقدم على المثبت وإليه ذهب الأمدي وغيره وأما جمعهم بين الأحاديث بأنه لم يسمعه لبعده وإنه كان صبياً يومئذ فمردود لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة ولأنس يومئذ عشر سنين ومات وله عشرون سنة فكيف يتصور أن يصلي خلفه عشر سنين فلا يسمعه يوماً من الدهر يجهر هذا بعيد بل مستحيل ثم قد روي هذا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف وهو رجل في زمن أبي بكر وعمر وكهل في زمن عثمان مع تقدمه في زمانهم وروايته للحديث وأما ما روي من إنكار أنس فلا يقاوم ما ثبت عنه خلافه في الصحيح ويحتمل أن يكون نسى في تلك الحال لكبره وقد وقع مثل ذلك كثيراً كما سئل يوماً عن مسألة فقال عليكم بالحسن فاسألوه فإنه حفظ ونسينا وكم ممن حدث ونسى ويحتمل أنه إنما سأله عن ذكرها في الصلاة أصلاً لا عن الجهر بها وإخفائها والله أعلم اهـ. وقد طال بنا الكلام في هذه المسألة لأنها أكثر دوراناً في المناظرة وهي من أعلام المسائل وقد نبهت فيها على فوائد غفل عنها أكثر أئمتنا في كتبهم وسبق لي الكلام عليها في كتاب الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب أبي حنيفة ولخصت هناك كلام الحافظ أبي بكر الحازمي رحمه الله تعالى وبالله التوفيق.