فلم يصل إلى علمنا (فيما اطلعنا عليه من مصادر إسلامية أو أجنبية) أن أحدًا من ملوك الغساسنة حاول التمرد على سلطة أباطرة الرومان، فحاول (مثلًا) اقتلاع الوجود الروماني من الشام (كليًّا) والانفراد بها والاستبداد بشئونها وإعلان نفسه ملكًا مطلقًا عليها كما حدث من عرب (تدمر) الذين حاربوا الرومان وطردوهم من الشام نهائيًا بعد أن كانوا مرتبطين بهم وتابعين لهم كما تقدم (١).
إن شيئًا من ذلك لم يحدث، رغم أن الغساسنة كانوا قوة بشرية هائلة وكانوا ذوي مقدرة قتالية فائقة، حيث تعد قواتهم المسلحة من أحسن الجيوش في المنطقة وبلغت في عصور مختلفة عدة مئات من الآلاف.
ومع ذلك فقد ظلوا على ولاء كامل للقسطنطنية وخاصة منذ أواخر القرن الخامس للميلاد. غير أنه قد يحصل بعض الجفاء بين ملوكهم وبين بعض القادة الرومان في الشام، ولكن ذلك لم يصل (في أي عصر من العصور) حد التمرد وإعلان الانفصال من قبل الغساسنة.
كما أن الرومان من ناحيتهم، كانوا على وئام مع الغساسنة مكرِّمين لهم، فلم يحديث (فيما وصل إلى علمنا) أن أحدًا من أباطرة الرومان أساء إلى أي ملك غسانى بالسجن أو التنكيل أو القتل كما حدث من أكاسرة الفرس مع المناذرة العرب في الحيرة بالعراق.
[قلة المعلومات عن تاريخ الغساسنة]
ومن المؤسف أن الغساسنة مع كونهم قد حكموا الشام طوال أربعة قرون، وكونهم ذوي شأن عظيم فإن المعلومات عن تاريخهم السياسي والعسكري ناقصة إلى حد كبير، عكس خصومهم اللخميين المرتبطين بأكاسرة الفرس، الذين كانت المعلومات عن تاريخهم السياسي والعسكري والثقافى أكثر وضوحًا وأوسع تفصيلًا، مع العلم أن مدة حكم اللخميين للحيرة أقل منها بالنسبة للغساسنة ورقعة ملكهم أضيق من رقعة ملك الغساسنة.
ويظهر أن النقص في المعلومات عن تاريخ الغساسنة، ووفرتها عن تاريخ
(١) وانظر أوسع التفاصل عن هذه الحرب في كتابنا (العرب في الشام قبل الإسلام).