ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يدرك أكثر مما يدرك أصحابه من أبعاد المستقبل .. ويعلم من الله ما لا يعلمون لأنه على صلة مباشرة مع السماء {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} (١) رأى أن يقبل ذلك الحل الوسط الذي اقترحه وأملاه حق وثيقة الصلح مفوض قريش ومندوبها سهيل بن عمرو. فأمر أصحابه أن يحلوا إحرامهم في الحديبية خارج الحرم. وأن يعودوا إلى المدينة. على أن يقضوا مناسك عمرتهم في العام القادم كما نصت على ذلك بنود اتفاقية الصلح.
وكما فصلناه في كتابنا الخامس من هذه السلسلة (صلح الحديبية) .. تردد الصحابة كلهم (تقريبًا) في حل إحرامهم ونحر هديهم في الحديبية وقبل أن يبلغ محله حتى أغضبوا بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلم ينحروا ويحلوا إحرامهم حتى رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ينحر هديه بيديه الشريفتين.
وقد أجمع المؤرخون على أنه (بسبب قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - بشروط الصلح كاد المسلمون أن يهلكوا للغم الذي نزل بهم لأن نفوسهم لم تستسغ هذه الشروط. لولا التزامهم بطاعة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
[مكاسب صلح الحديبية]
غير أن هؤلاء الصحابة الذين عارضوا الصلح أشد المعارضة -وبمجرد عودتهم إلى المدينة من الحديبية- أخذت بركات ومكاسب هذا الصلح الذي كرهوا واغتموا له تتجلى لهم وتتوارد عليهم شيئًا فشيئًا .. متجسدة فيما جد من أحداث نتيجة هذا الصلح. كلها كانت نصرًا وتعزيزًا للمسلمين.
فازداد المسلمون يقينًا بأن نبيهم العظيم يدرك أبعد مما يدركون وإن الحكمة التي آتاها الله لا يمكن لبشر أن يسبر غورها أو يدرك مداها. وأنه لا يفعل ولا يقول إلا حقا. وأن ما كرهوه من هذا الصلح قد حقق للمسلمين من الانتصارات المعنوية والسياسية وعلى كل صعيد. ما لم تحققة أية معركة حربية خاضوها وانتصروا فيها على معسكر الشرك والوثنية.