كعب بن مالك شاهد بيعة العقبة وصاحبيه المؤمنين أن يسلكوا طريق المنافقين الشائن المنحط، وهم الذين لم يجد الشك والريبة الطريق إلى قلوبهم لحظة واحدة في حياتهم، فاعتصموا لذلك بقلعة الصدق، وقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقيقة دونما أي (تغليف أو طك أو رتوش) فدفعوا ثمن هذا الصدق غاليًا، كؤوسًا مترعة بالكروب والهموم، تجرعوها عشرات الأيام حينما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بمقاطعتهم حين لم يقدموا عذرًا، بل اعترفوا بتقصيرهم لدى التحقيق الذي أجراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع كل الذين ينتسبون إلى الإِسلام وتخلفوا عن غزوة تبوك.
أما المنافقون "وهم كثر" فقد أسعفهم جدب قلوبهم من الإِيمان على أن يقدموا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المعاذير ما يخالف الحقيقة، فقبل عذرهم واعتذارهم الظاهر ووكل باطنهم إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بشر لا يعلم من الغيب شيئًا إلا مما أخبره الله تعالى به عن طريق الوحى. أما كعب بن مالك وصاحباه المبرآن من الدِّخَل والنفاق فقد اعترفوا بذنبهم، فأعلنوا أنهم حين تخلفوا لم يكن لتخلفهم من مبرر فأسلموا أمرهم لله، فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتركهم وشأنهم، بل ومقاطعتهم حتى بتَّ القرآن في قضيتهم، فنزل بتوبتهم.
[كعب بن مالك يتحدث عن مأساته]
ويحدثنا كعب بن مالك عن مأساته القاسية وكيف أنه لم يكن أمامه وصاحبيه مخرج سوى شيء واحدٌ يقولونه لدى استجواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم: لماذا تخلفوا عن واجب الجهاد في سبيل الله تعالى، كما يحدثنا كعب عن فئات المنافقين الذين اختصروا ما يمكن أن يواجهوا من متاعب لتخلفهم، وذلك بلجوئهم إلى الكذب والتزوير بإظهارهم خلاف ما يبطنون.
قال كعب بن مالك: لما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافًلا من تبوك حضرنى بثّى، فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدًا وأستعين على ذلك كل ذي رأى من أهلي، حتى ربما ذكرته للخادم رجاء أن يأتينى شيء أستريح إليه، فلما قيل: إن رسول الله